وقد يسأل عن هذا فيقال: كيف بقَّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - رجلًا يدَّعي النبوة كاذبًا، ويتركه بالمدينة يساكنه في داره، ويجاوره فيها؟ وما معنى ذلك؟ وما وجُه امتحانه إياه بما خبأ له من آية الدخان؟ وقوله بعد ذلك: "اخسأ فلن تعدو قدرك"؟
قلت: والذي عندي: أن هذه القصة إنما جرت معه أيامَ مهادنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليهودَ وحلفاءَهم، وذلك أنه بعد مقدمه المدينةَ: كتب بينه وبين اليهود كتابًا صالحهم فيه على أن لا يُهاجوا، وأن يُتركوا على أمرهم، وكان ابن الصياد منهم، أو دخيلًا في جملتهم، وكان يبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبرُهُ، وما يدَّعيه من الكهانة، ويتعاطاه من الغيب، فامتحنه - صلى الله عليه وسلم - بذلك؛ ليرُوزَ به أمرَهُ، ويَخبرَ شأنَهُ، فلمَّا كلَّمه علم أنه مبطل، وأنه من جملة السحرة والكهنة، أو ممن يأتيه رِئيٌّ من الجن، أو يتعاهده شيطان، فيلقي على لسانه بعض ما يتكلم به، فلما سمع منه قول: الدخ، زَبَرَهُ وقال: "اخسأ فلن تعدوَ قدرك" يريد: أن ذلك شيء اطَّلعَ عليه الشيطان، فألقاه إليه، فأجراه على لسانه، وليس ذلك من قبل الوحي السمائي، إذ لم يكن له قدرُ الأنبياء الذين يُوحَى إليهم علم الغيب، ولا درجةُ الأولياء الذين يقيمون العلم، ويصيبون بنور قلوبهم، وإنما كانت له تاراتٌ يصيب في بعضها، ويخطئ في بعض، وذلك معنى قوله: (يأتيني صادق وكاذب)، فقال له عند ذلك: "قد خلط عليك".
فالجملةُ من أمره: أنه كان فتنة قد امتحنَ الله به عباده المؤمنين؛ ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حيَّ عن بينة، وقد امتُحِنَ قومُ موسى عليه السلام في زمانه بالعجل، فافتتن به قوم وهلكوا، ونجا من هداه الله، وعصمه منهم. هذا كله لفظ الخطابي.
قوله: "وهو يختل"؛ يعني: يريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يسترقَ السمع من ابن الصياد على غفلةٍ منه؛ ليعلم أنه على الحق، أو على الباطل.