وجاء في رواية: "أن امرأتين كانتا تخرُزَان في بيت -أو في حجرة- فَجُرِحَتْ إِحْدَاهُمَا، وقد أنفذ بالإشفي في كفِّها؛ فادَّعَتْ على الأُخرَى، فَرُفِعَ ذَلِكَ إلى ابن عباس، فَذَكَرَ الحديثَ: لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بدَعْوَاهُمْ لَذَهَبَتْ دِمَاؤُهمْ وَأَمْوَالُهمْ، ذَكِّرُوها بالله فاقرَؤُوا عليها: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 77] فذَكَّرُوها فاعتَرَفَتْ". فقال ابن عباس: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اليَمِينُ عَلَى المُدَّعَى عليهِ" (?).

ثانيها: هذا الحديثُ قاعدٌ كبيرٌ مِن قواعد الشَّريعةِ، وأَصلٌ من أُصولِ الأحكام، وأعظم مرجع عند التَّنَازع والخِصَام، وقد قيل: إنه فصل الخِطَاب الذي أُوتيه داود، كما سلف في الخطبة أنه لا يقبل قول الإنسان فيما يدعيه بمجرد دعواه؛ بل لا بد من استناد إلى ما يقوي دعواه من البينة أو تصديق المدعى عليه ولو كان المدعى فاضلًا شريفًا أو حقًّا خفيفًا، وإلَّا فالدَّعَاوى مُتَكافِئة، والأصل: براءَةُ الذِّمَم من الحقوق، فلابُدَّ مِمَّا يدل على تعلق الحق بالذِّمة وتتَرَجَّح به الدَّعْوَى؛ فإن طَلَبَ يَمِين المُدَّعى عليه فله ذلك.

وقد بيَّن الشَّارعُ الحكمة في كونه لا يعطي بمجرد دعواه؛ لأنه لو أعطى بمجردها لادعيت الدِّماءُ والأموالُ واستُبيحت، ولا يمكن المدعى عليه أن يصون ماله ودمه، وأما المدعي فيمكن صيانتهما بالبَيِّنة أيضًا، وجانب المُدَّعِي ضعيف؛ لدعواه خلاف الأصل، وجانب المُنْكِر قوي؛ لموافقةِ الأصل في البراءة، والبينة حجة قوية لبعدها عن التُّهمة، واليمين حُجَّة ضعيفة لقربها منها، فجعل القوي في جانب الضَّعيف، والضعيف في جانب القوي، وهو جانب المنكر تعديلًا، وهو توجيهٌ حَسَنٌ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015