فلئم قبلتَ فتلك أسنى نعمةٍ ... أسدى بها ذو منحة وتطوُّلِ1
صحبَتْك غادية السرور وجللتْ ... أرجاء رَبْعك بالسحاب المُخْضِلِ
فقضى الله في سابق علمه أن غَرْسِيةَ بن شانجُه من ملوك الروم -وكان أمنع من النجم- أُسر في ذلك اليوم بعينه الذي بعث فيه صاعد بالأيل وسماه غرسية متفائلًا بأسره. وهكذا فليكن الجد للصاحب والمصحوب. وكان أسر غرسية هذا في ربيع الآخر سنة 385.
خرج أبو العلاء صاعد هذا من الأندلس أيام الفتن، وقصد صِقِلِّية فمات بها في قريب من سنة 410 -فيما بلغني- عن سن عالية.
ولم يزل المنصور أبو عامر محمد بن أبي عامر طول أيام مملكته مواصلاً لغزو الروم، مفرطًا في ذلك لا يشغله عنه شيء. وكان له مجلس في كل أسبوع يجتمع فيه أهل العلم للمناظرة بحضرته ما كان مقيمًا بقرطبة. وبلغ من إفراط حبه للغزو أنه ربما خرج للمصلَّى يوم العيد فحدثت له نية في ذلك فلا يرجع إلى قصره، بل يخرج بعد انصرافه من المصلى كما هو من فوره إلى الجهاد، فتتبعه عساكره وتلحق به أولًا فأولاً، فلا يصل إلى أوائل بلاد الروم إلا وقد لحقه كل من أراده من العساكر. غزا في أيام مملكته نيفًا وخمسين غزوة, ذكرها أبو مروان بن حيان كلها في كتابه الذي سماه بـ المآثر العامرية، واستقصاها كلها بأوقاتها وذكر آثاره فيها. وفتح فتوحًا كثيرة، ووصل إلى معاقل قد كانت امتنعت على من كان قبله، وملأ الأندلس غنائم وسَبْيًا من بنات الروم وأولادهم ونسائهم. وفي أيامه تغالى الناس بالأندلس فيما يجهزون به بناتهم من الثياب والحلي والدور؛ وذلك لرخص أثمان بنات الروم، فكان الناس يرغبون في بناتهم بما يجهزونهن به مما ذكرنا، ولولا ذلك لم يتزوج أحد حرة. بلغني أنه نُودي على ابنة عظيم من عظماء الروم بقرطبة -وكانت ذات جمال رائع- فلم تساو أكثر من عشرين دينارًا عامرية. وكان في أكثر زمانه لا يُخل بأن يغزو غزوتين في السنة. وكان كلما انصرف من قتال العدو إلى سُرَادقه يأمر بأن ينفض غبار ثيابه التي حضر فيها معمعة2 القتال، وأن يُجمع ويُتحفظ به، فلما حضرته المنية أمر بما اجتمع من ذلك أن ينثر على كفنه إذا وضع في قبره.
وكانت وفاته بأقصى ثغور المسلمين، بموضع يعرف بمدينة سالم، مبطونًا؛ فصحت له الشهادة، وتاريخ وفاته سنة 393. فكانت مدة إمارته نحوًا من سبع وعشرين