ابنه أبي عبد الله، إلى أن غيره أبو عبد الله المذكور، بعد أن توسلوا إليه بكل وسيلة، واستشفعوا بكل من يظنون أن شفاعته تنفعهم. فأمرهم أبو عبد الله بلبسان ثياب صفر وعمائم صفر؛ فهم على هذا الزي إلى وقتنا هذا -وهو سنة 621- وإنما حمل أبا يوسف على ما صنعه من إفرادهم بهذا الزي وتمييزه إياهم به، شكه في إسلامهم؛ وكان يقول: لو صح عندي إسلامهم لتركتهم يختلطون بالمسلمين في أنكحتهم وسائر أمورهم، ولو صح عندي كفرهم لقتلت رجالهم وسبيت ذراريهم1 وجعلت أموالهم فيئًا2 للمسلمين؛ ولكني متردد في أمرهم.

ولم تنعقد عندنا ذمة ليهودي ولا نصراني منذ قام أمر المصامدة، ولا في جميع بلاد المسلمين بالمغرب بيعة ولا كنيسة؛ إنما اليهود عندنا يظهرون الإسلام ويصلون في المساجد ويُقرئون أولادهم القرآن؛ جارين على ملتنا وسنتنا، والله أعلم بما تكن3 صدورهم وتحويه بيوتهم.

محنة أبي الوليد بن رشد

وفي أيامه نالت أبا الوليد محمد بن أحمد بن رشد -المقدم الذكر- محنة شديدة؛ وكان لها سببان: جلي وخفي؛ فأما سببها الخفي، وهو أكبر أسبابها، فإن الحكيم أبا الوليد -رحمه الله- أخذ في شرح كتاب الحيوان لأرسطاطاليس صاحب كتاب المنطق، فهذبه وبسط أغراضه وزاد فيه ما رآه لائقًا به، فقال في هذا الكتاب عند ذكره الزرافة وكيف تتولد وبأي أرض تنشأ: وقد رأيتها عند ملك البربر ... جاريًا في ذلك على طريقة العلماء في الإخبار عن ملوك الأمم وأسماء الأقاليم، غير ملتفت إلى ما يتعاطاه خَدَمة الملوك ومتحيلو الكتاب من الإطراء والتقريظ4، وما جانس هذه الطرق؛ فكان هذا مما أحنقهم5 عليه, غير أنهم لم يظهروا ذلك. وفي الجملة فإنها كانت من أبي الوليد غفلة؛ فقد قال القائل: رحم الله من عرف زمانه فمانَه6، وميز مكانه فكانَه!. وما أحسن ما قال الأول: من الطويل

وأنزلني طول النوى دار غربة ... إذا شئتُ لاقيت الذي لا أشاكلُه7

طور بواسطة نورين ميديا © 2015