جملة ما هاجه وأوغر صدره1 عليهم. وكان أشد الناس عليه في أمر هذه الفتنة الفقهاء، هم الذين كانوا يحرضون العامة ويشجعونهم، إلى أن كان من أمرهم ما كان.
وحكى أبو مروان بن حيان2 صاحب أخبار الأندلس، أنه لما تُسُور عليه القصر وأحس بالشر، قال لأخص غلمانه: اذهب إلى فلانة، إحدى كرائمه، وقل لها تعطيك قارورة الغالية3. فأبطأ الغلام وتلكأ، فأعاد ذلك عليه، فقال: يا مولاي، هذا وقت الغالية؟ فقال له: ويلك يا ابن الفاعلة! بم يعرف رأسي إذا قطع من رءوس العامة إن لم يكن مضمخًا بالغالية؟ ثم إنه ظهر بعد هذا عليهم، وذلك أنهم كانوا يقاتلون القصر وعامة الحشم والجند يشغلونهم، إلى أن دهمتهم الخيل من ورائهم، فانهزموا وقُتلوا قتلًا قبيحًا، وأمر بديارهم ومساجدهم فهدمت وحرقت، وأمر بنفي من بقي منهم عن البلاد، فخرجوا حتى نزلوا جزيرة إقريطش من جزائر البحر الرومي المقابلة لبر بَرْقَة أول المغرب، فلم يزالوا هنالك سنين إلى أن تفرقوا، فرجع بعضهم إلى الأندلس، واختار بعضهم سُكنى صقلية، وانتقل بعضهم إلى الإسكندرية.
ومن أعجب ما حكي أبو مروان بن حيان المؤرخ بما يتصل بخبر هذه الوقعة، قال: كان من أشد الناس على الحكم هذا تحريضًا، رجل من الفقهاء اسمه طالوت4, كان جليل القدر في الفقهاء، رحل إلى المدينة وسمع من مالك بن أنس5 وتفقه على أصحابه، وكان قويًّا في دينه؛ فلما الحكم بأهل الربض -كما ذكرنا- وأمر بتغريب من بقي منهم، كان ممن أمر بتغريبه طالوت الفقيه، فعسر عليه الانتقال ومفارقة الوطن، ورأى الاختفاء إلى أن تتغير الأحوال، فاستخفى في دار رجل يهودي سنة كاملة، واليهودي في كل ذلك يكرمه أبلغ الكرامة، ويعظمه أشد التعظيم؛ فلما مضت السنة طال على الفقيه الاختفاء، فاستدعى اليهودي وشكره على إحسانه إليه، وقال له: قد عزمت غدًا على الخروج وقصد دار فلان الكاتب؛ لأنه قرأ علي ولي عليه حق التعليم، وقد بلغني أن له جاهًا عند هذا الرجل، فعسى هو يشفع لي عنده