فأخبرني بعض أشياخ الموحدين من ذوي التحصيل منهم والثقة، أن عبد المؤمن مر في طريقه راجعًا من إفريقية ببجاية؛ فدخل البلد متنزهًا فيه، فمر بسُوَيْقة1 بناحية باب من أبوابها يدعى باب تاطُنْت؛ فوقف ووقفت معه وجوه دولته؛ فسأل عن بياع بها سماه باسمه؛ فأخبره أهل السويقة بوفاته، فقال: هل خلف عقبًا؟ قالوا: نعم؛ فأمر بشراء جميع الدكاكين التي بتلك السويقة وأوقفها عليهم، وأمر لهم بمال كثير. ثم التفت إلى بعض خواصه وقال له: أتيت إلى هذا البياع ولي وللإمام -يعني: ابن تومرت- ولجماعة من أصحابنا من الطلبة أيام لم نطعم فيها، وما معي إلا سكين الدواة؛ فأخذت منه خبزًا وإدامًا، ثم وضعت عنده السكين رهنًا على ذلك، فأبى قبولها وقال لي: إني توسمتُ فيك الخير؛ فمتى أعوزك شيء فهلم الدكان فهو بين يديك وبحكمك! فحقه علي أكثر من هذا.
ونظر في هذا اليوم الذي ركب فيه مخترقًا بجاية إلى يحيى بن العزيز يمشي بين يديه راجلا وقد علاه الغبار، فدمعت عيناه، واستدعاه فقال له: أتذكر يومًا خرجت إلى بعض منتزهاتك، فأذكر أني جمعني وإياك هذا الباب، فوطئت دابتك عقبي، فلما نظرتُ إليك أمرتَ بعض عبيدك فوكزني وكزة2 كدت أقع منها لفِيَّ! فاستحيا يحيى وتغير لونه وأطرق، وجعل يقول: الله الله يا مولاي! وظن أنه الشر؛ فلما رأى ذلك منه قال له: إنما ذكرت لك ذلك على طريق الاعتبار؛ ولتذكر وتنظر كيف تقلب الأيام بأهلها! وأمر له بما زال به رَوْعُهُ3.
ومر في طريقه هذا ما بين البطحاء وتلمسان بموضع قد التف فيه الدَّوْح، فجاءت منه دوحة4 في وسطها رحبة5 نقية؛ فأمر أن يضرب خباؤه هنالك؛ وهو غير منزل معروف. فلما نزل ونزلت العساكر واستقر بهم النزول، قال لبعض خواصه: أتدرون لِمَ آثرت النزول بهذا المكان؟ قالوا: لا؛ قال: ذلك لأني بت بهذا الموضع في بعض الليالي جائعًا مقرورًا6، وكانت ليلة ممطورة؛ فما زال هذا الدوح وقائي حتى أصبحت؛ فأردت النزول هنا على هذه الحالة لأشكر الله سبحانه على الفرق ما