مَقْطُوعًا بِهِ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيهِ خِلَافًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
هَذِهِ هِيَ الْمُفْسِدَاتُ، وَوَرَاءَ هَذَا اعْتِرَاضَاتٌ مِثْلَ الْمَنْعِ وَفَسَادِ الْوَضْعِ وَعَدَمِ التَّأْثِيرِ وَالْكَسْرِ وَالْفَرْقِ وَالْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ وَالتَّعْدِيَةِ وَالتَّرْكِيبِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ فِيهِ تَصْوِيبُ نَظَرِ الْمُجْتَهِدِينَ قَدْ انْطَوَى تَحْتَ مَا ذَكَرْنَاهُ وَمَا لَمْ يَنْدَرِجْ تَحْتَ مَا ذَكَرْنَاهُ فَهُوَ نَظَرٌ جَدَلِيٌّ يَتْبَعُ شَرِيعَةَ الْجَدَلِ الَّتِي وَضَعَهَا الْجَدَلِيُّونَ بِاصْطِلَاحِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا فَائِدَةٌ دِينِيَّةٌ فَيَنْبَغِي أَنْ تَشِحَّ عَلَى الْأَوْقَاتِ أَنْ تُضَيِّعَهَا بِهَا، وَتَفْصِيلُهَا وَإِنْ تَعَلَّقَ بِهَا فَائِدَةٌ مِنْ ضَمِّ نَشْرِ الْكَلَامِ وَرَدِّ كَلَامِ الْمُنَاظِرِينَ إلَى مَجْرَى الْخِصَامِ كَيْ لَا يَذْهَبَ كُلُّ وَاحِدٍ عَرْضًا وَطُولًا فِي كَلَامِهِ مُنْحَرِفًا عَنْ مَقْصِدِ نَظَرِهِ، فَهِيَ لَيْسَتْ فَائِدَةً مِنْ جِنْسِ أُصُولِ الْفِقْهِ بَلْ هِيَ مِنْ عِلْمِ الْجَدَلِ فَيَنْبَغِي أَنْ تُفْرَدَ بِالنَّظَرِ وَلَا تُمْزَجَ بِالْأُصُولِ الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا تَذْلِيلُ طُرُقِ الِاجْتِهَادِ لِلْمُجْتَهِدِينَ.
وَهَذَا آخِرُ الْقُطْبِ الثَّالِثِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى طُرُقِ اسْتِثْمَارِ الْأَحْكَامِ إمَّا مِنْ صِيغَةِ اللَّفْظِ وَمَوْضُوعِهِ أَوْ إشَارَتِهِ وَمُقْتَضَاهُ وَمَعْقُولِهِ وَمَعْنَاهُ، فَقَدْ اسْتَوْفَيْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْقُطْبُ الرَّابِعُ فِي حُكْمِ الْمُسْتَثْمِرِ وَهُوَ الْمُجْتَهِدُ. وَيَشْتَمِلُ هَذَا الْقُطْبُ عَلَى ثَلَاثَةِ فُنُونٍ: فَنٌّ فِي الِاجْتِهَادِ، وَفَنٌّ فِي التَّقْلِيدِ، وَفَنٌّ فِي تَرْجِيحِ الْمُجْتَهِدِ دَلِيلًا عَلَى دَلِيلٍ عِنْدَ التَّعَارُضِ. الْفَنُّ الْأَوَّلُ: فِي الِاجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ فِي أَرْكَانِهِ وَأَحْكَامِهِ
أَمَّا أَرْكَانُهُ فَثَلَاثَةٌ: الْمُجْتَهِدُ، وَالْمُجْتَهَدُ فِيهِ، وَنَفْسُ الِاجْتِهَادِ.
الرُّكْنُ الْأَوَّلُ: فِي نَفْسِ الِاجْتِهَادِ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ بَذْلِ الْمَجْهُودِ وَاسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ فِي فِعْلٍ مِنْ الْأَفْعَالِ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِيمَا فِيهِ كُلْفَةٌ وَجَهْدٌ، فَيُقَالُ: اجْتَهَدَ فِي حَمْلِ حَجَرِ الرَّحَا، وَلَا يُقَالُ: اجْتَهَدَ فِي حَمْلِ خَرْدَلَةٍ، لَكِنْ صَارَ اللَّفْظُ فِي عُرْفِ الْعُلَمَاءِ مَخْصُوصًا بِبَذْلِ الْمُجْتَهِدِ وُسْعَهُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ. وَالِاجْتِهَادُ التَّامُّ أَنْ يَبْذُلَ الْوُسْعَ فِي الطَّلَبِ بِحَيْثُ يُحِسُّ مِنْ نَفْسِهِ بِالْعَجْزِ عَنْ مَزِيدِ طَلَبٍ
الرُّكْنُ الثَّانِي الْمُجْتَهِدُ وَلَهُ شَرْطَانِ.
أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مُحِيطًا بِمَدَارِكِ الشَّرْعِ مُتَمَكِّنًا مِنْ اسْتِثَارَةِ الظَّنِّ بِالنَّظَرِ فِيهَا وَتَقْدِيمِ مَا يَجِبُ تَقْدِيمُهُ وَتَأْخِيرِ مَا يَجِبُ تَأْخِيرُهُ.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَدْلًا مُجْتَنِبًا لِلْمَعَاصِي الْقَادِحَةِ فِي الْعَدَالَةِ، وَهَذَا يُشْتَرَطُ لِجَوَازِ الِاعْتِمَادِ عَلَى فَتْوَاهُ فَمَنْ لَيْسَ عَدْلًا فَلَا تُقْبَلُ فَتْوَاهُ، أَمَّا هُوَ فِي نَفْسِهِ فَلَا، فَكَأَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطُ الْقَبُولِ لِلْفَتْوَى لَا شَرْطُ صِحَّةِ الِاجْتِهَادِ.
فَإِنْ قِيلَ: مَتَى يَكُونُ مُحِيطًا بِمَدَارِكِ الشَّرْعِ؟ وَمَا تَفْصِيلُ الْعُلُومِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا لِتَحْصِيلِ مَنْصِبِ الِاجْتِهَادِ؟ قُلْنَا: إنَّمَا يَكُونُ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْفَتْوَى بَعْدَ أَنْ يَعْرِفَ الْمَدَارِكَ الْمُثْمِرَةَ لِلْأَحْكَامِ، وَأَنْ يَعْرِفَ كَيْفِيَّةَ الِاسْتِثْمَارِ. وَالْمَدَارِكُ الْمُثْمِرَةُ لِلْأَحْكَامِ كَمَا فَصَّلْنَاهَا أَرْبَعَةٌ: الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَالْإِجْمَاعُ، وَالْعَقْلُ. وَطَرِيقُ الِاسْتِثْمَارِ يَتِمُّ بِأَرْبَعَةِ عُلُومٍ اثْنَانِ مُقَدَّمَانِ وَاثْنَانِ مُتَمِّمَانِ وَأَرْبَعَةٌ فِي الْوَسَطِ، فَهَذِهِ ثَمَانِيَةٌ فَلْنُفَصِّلْهَا وَلْنُنَبِّهْ فِيهَا عَلَى دَقَائِقَ أَهْمَلَهَا الْأُصُولِيُّونَ.
أَمَّا كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ الْأَصْلُ وَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهِ، وَلْنُخَفِّفْ عَنْهُ أَمْرَيْنِ:
أَحَدَهُمَا: أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ جَمِيعِ الْكِتَابِ بَلْ مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَحْكَامُ مِنْهُ وَهُوَ مِقْدَارُ خَمْسِمِائَةِ آيَةٍ.
الثَّانِيَ لَا يُشْتَرَطُ حِفْظُهَا عَنْ ظَهْرِ قَلْبِهِ بَلْ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمَوَاضِعِهَا بِحَيْثُ