الْمَثَارُ الثَّالِثُ أَنْ يَرْجِعَ الْفَسَادُ إلَى طَرِيقِ الْعِلَّةِ وَهُوَ عَلَى أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ انْتِفَاءُ دَلِيلٍ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ فَإِنَّهُ دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى فَسَادِهَا فَمَنْ اسْتَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ عِلَّتِهِ بِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى فَسَادِهَا فَقِيَاسُهُ بَاطِلٌ قَطْعًا وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَدَلَّ بِمُجَرَّدِ الِاطِّرَادِ إنْ لَمْ يَنْضَمَّ إلَيْهِ سَبْرٌ وَرُبَّمَا رَأَى بَعْضُهُمْ إبْطَالَ الطَّرْدِ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ.
الثَّانِي أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ فَهُوَ بَاطِلٌ قَطْعًا فَإِنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ عِلَّةً لِلْحُكْمِ أَمْرٌ شَرْعِيٌّ.
الثَّالِثُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ دَافِعَةً لِلنَّصِّ وَمُنَاقِضَةً لِحُكْمٍ مَنْصُوصٍ فَالْقِيَاسُ عَلَى خِلَافِ النَّصِّ بَاطِلٌ قَطْعًا، وَكَذَا عَلَى خِلَافِ الْإِجْمَاعِ وَكَذَلِكَ مَا يُخَالِفُ الْعِلَّةَ الْمَنْصُوصَةَ كَتَعْلِيلِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ بِغَيْرِ الْإِسْكَارِ الْمُثِيرِ لِلْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، وَلَيْسَ التَّعْلِيلُ بِالْكَيْلِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ وَإِنْ دُفِعَ قَوْلُهُ لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ؛ لِأَنَّهُ عِلَّةُ صَاحِبِ الشَّرْعِ مَعَ تَقْرِيرِ الْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ فَإِنَّ النَّصَّ عَلَى عِلَّةٍ وَاحِدَةٍ لَا يَمْنَعُ وُجُودَ عِلَّةٍ أُخْرَى وَلِذَلِكَ يَجُوزُ تَعْلِيلُ الْحُكْمِ بِغَيْرِ مَا عَلَّلَ بِهِ الصَّحَابَةُ إذَا لَمْ تُدْفَعْ عِلَّتُهُمْ إذْ لَمْ يَكُنْ فَرْضُ الصَّحَابَةِ اسْتِنْبَاطَ جَمِيعِ الْعِلَلِ.
الْمَثَارُ الرَّابِعُ: وَضْعُ الْقِيَاسِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، كَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُثْبِتَ أَصْلَ الْقِيَاسِ أَوْ أَصْلَ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِالْقِيَاسِ فَقَاسَ الرِّوَايَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ.
وَكَذَلِكَ الْمَسَائِلُ الْأُصُولِيَّةُ الْعَقْلِيَّةُ لَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِهَا بِالْأَقْيِسَةِ الظَّنِّيَّةِ، فَاسْتِعْمَالُ الْقِيَاسِ فِيهَا وَضْعٌ لَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. هَذِهِ الْمُفْسِدَاتُ الْقَطْعِيَّةُ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: فِي الْمُفْسِدَاتِ الظَّنِّيَّةِ الِاجْتِهَادِيَّةِ: الَّتِي نَعْنِي بِفَسَادِهَا أَنَّهَا فَاسِدَةٌ عِنْدَنَا وَفِي حَقِّنَا إذْ لَمْ تَغْلِبْ عَلَى ظَنِّنَا وَهِيَ صَحِيحَةٌ فِي حَقِّ مَنْ غَلَبَتْ عَلَى ظَنِّهِ، وَمَنْ قَالَ: الْمُصِيبُ وَاحِدٌ فَيَقُولُ هِيَ فَاسِدَةٌ فِي نَفْسِهَا لَا بِالْإِضَافَةِ، إلَّا أَنِّي أُجَوِّزُ أَنْ أَكُونَ أَنَا الْمُخْطِئُ، وَعَلَى الْجُمْلَةِ لَا تَأْثِيمَ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ وَمَنْ خَالَفَ الدَّلِيلَ الْقَطْعِيَّ فَهُوَ آثِمٌ.
وَهَذِهِ الْمُفْسِدَاتُ تِسْعٌ:
الْأَوَّلُ: الْعِلَّةُ الْمَخْصُومَةُ بَاطِلَةٌ عِنْدَ مَنْ لَا يَرَى تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ، صَحِيحَةٌ عِنْدَ مَنْ يَبْقَى ظَنُّهُ مَعَ التَّخْصِيصِ.
الثَّانِي: عِلَّةٌ مُخَصِّصَةٌ لِعُمُومِ الْقُرْآنِ هِيَ صَحِيحَةٌ عِنْدَنَا فَاسِدَةٌ عِنْدَ مَنْ رَأَى تَقْدِيمَ الْعُمُومِ عَلَى الْقِيَاسِ
الثَّالِثُ: عِلَّةٌ عَارَضَتْهَا عِلَّةٌ تَقْتَضِي نَقِيضَ حُكْمِهَا فَاسِدَةٌ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: الْمُصِيبُ وَاحِدٌ، صَحِيحَةٌ عِنْدَ مَنْ صَوَّبَ كُلَّ مُجْتَهِدٍ وَهُمَا عَلَامَتَانِ لِحُكْمَيْنِ فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدَيْنِ وَفِي حَقِّ مُجْتَهِدٍ وَاحِدٍ فِي حَالَتَيْنِ فَإِنْ اجْتَمَعَا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَدْ نَقُولُ: إنَّهُ يُوجِبُ التَّخْيِيرَ كَمَا سَيَأْتِي.
الرَّابِعُ: أَنْ لَا يَدُلَّ عَلَى صِحَّتِهَا إلَّا الطَّرْدُ وَالْعَكْسُ وَقَدْ يُقَالُ: مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مُجَرَّدُ الِاطِّرَادِ فَهُوَ أَيْضًا فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ.
الْخَامِسُ: أَنْ يَتَضَمَّنَ زِيَادَةً عَلَى النَّصِّ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الرَّقَبَةِ الْكَافِرَةِ.
السَّادِسُ: الْقِيَاسُ فِي الْكَفَّارَاتِ وَالْحُدُودِ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي هَذَا مَا يُظَنُّ أَنَّهُ يَرْفَعُ الْخِلَافَ.
السَّابِعُ: ذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ انْتِزَاعُ الْعِلَّةِ مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ تُؤْخَذَ مِنْ أَصْلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَهَذَا فَاسِدٌ وَلَا يَبْعُدُ مِنْ أَنْ يَكُونَ فَسَادُهُ مَقْطُوعًا بِهِ.
الثَّامِنُ: عِلَّةٌ تُخَالِفُ مَذْهَبَ الصَّحَابَةِ وَهِيَ فَاسِدَةٌ عِنْدَ مَنْ يُوجِبُ اتِّبَاعَ الصَّحَابَةِ وَإِنْ كَانَ الْمَنْعُ مِنْ تَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ مَسْأَلَةً اجْتِهَادِيَّةً فَهَذَا مُجْتَهِدٌ فِيهِ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَقُولَ: بُطْلَانُ ذَلِكَ الْمَذْهَبِ مَقْطُوعٌ بِهِ.
التَّاسِعُ: أَنْ يَكُونَ وُجُودُ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ مَظْنُونًا