اعْتِقَادُ الشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ. وَهُوَ خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: تَخْصِيصُ الشَّيْءِ مَعَ أَنَّ الْعِلْمَ يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْدُومِ الَّذِي لَيْسَ شَيْئًا عِنْدَنَا. وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا الِاعْتِقَادَ حَاصِلٌ لِلْمُقَلِّدِ وَلَيْسَ بِعَالِمٍ قَطْعًا، فَإِنَّهُ كَمَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَعْتَقِدَ الشَّيْءَ جَزْمًا عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ بِهِ لَا عَنْ بَصِيرَةٍ كَاعْتِقَادِ الْيَهُودِيِّ وَالْمُشْرِكِ فَإِنَّهُ تَصْمِيمٌ جَازِمٌ لَا تَرَدُّدَ فِيهِ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَعْتَقِدَ الشَّيْءَ بِمُجَرَّدِ التَّلْقِينِ وَالتَّلَقُّفِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ مَعَ الْجَزْمِ الَّذِي لَا يَخْطِرُ بِبَالِهِ جَوَازُ غَيْرِهِ.
فَوَجْهُ تَمَيُّزِ الْعِلْمِ عَنْ الِاعْتِقَادِ هُوَ أَنَّ الِاعْتِقَادَ مَعْنَاهُ السَّبْقُ إلَى أَحَدِ مُعْتَقَدَيْ الشَّاكِّ مَعَ الْوُقُوفِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ إخْطَارِ نَقِيضِهِ بِالْبَالِ وَمِنْ غَيْرِ تَمْكِينِ نَقِيضِهِ مِنْ الْحُلُولِ فِي النَّفْسِ، فَإِنَّ الشَّاكَّ يَقُولُ: الْعَالَمُ حَادِثٌ أَمْ لَيْسَ بِحَادِثٍ، وَالْمُعْتَقِدُ يَقُولُ: حَادِثٌ، وَيَسْتَمِرُّ عَلَيْهِ وَلَا يَتَّسِعُ صَدْرُهُ لِتَجْوِيزِ الْقِدَمِ، وَالْجَاهِلُ يَقُولُ قَدِيمٌ، وَيَسْتَمِرُّ عَلَيْهِ. وَالِاعْتِقَادُ وَإِنْ وَافَقَ الْمُعْتَقِدَ فَهُوَ جِنْسٌ مِنْ الْجَهْلِ فِي نَفْسِهِ وَإِنْ خَالَفَهُ بِالْإِضَافَةِ فَإِنَّ مُعْتَقِدَ كَوْنِ زَيْدٍ فِي الدَّارِ لَوْ قُدِّرَ اسْتِمْرَارُهُ عَلَيْهِ حَتَّى خَرَجَ زَيْدٌ مِنْ الدَّارِ بَقِيَ اعْتِقَادُهُ كَمَا كَانَ لَمْ يَتَغَيَّرْ فِي نَفْسِهِ وَإِنَّمَا تَغَيَّرَتْ إضَافَتُهُ، فَإِنَّهُ طَابَقَ الْمُعْتَقِدَ فِي حَالَةٍ وَخَالَفَهُ فِي حَالَةٍ. وَأَمَّا الْعِلْمُ فَيَسْتَحِيلُ تَقْدِيرُ بَقَائِهِ مَعَ تَغَيُّرِ الْمَعْلُومِ فَإِنَّهُ كَشْفٌ وَانْشِرَاحٌ، وَالِاعْتِقَادُ عُقْدَةٌ عَلَى الْقَلْبِ وَالْعِلْمُ عِبَارَةٌ عَنْ انْحِلَالِ الْعَقْدِ فَهُمَا مُخْتَلِفَانِ، وَلِذَلِكَ لَوْ أَصْغَى الْمُعْتَقِدُ إلَى الْمُشَكِّكِ لَوَجَدَ لِنَقِيضِ مُعْتَقَدِهِ مَجَالًا فِي نَفْسِهِ، وَالْعَالِمُ لَا يَجِدُ ذَلِكَ أَصْلًا وَإِنْ أَصْغَى إلَى الشُّبَهِ الْمُشَكِّكَةِ، وَلَكِنْ إذَا سَمِعَ شُبْهَةً فَإِمَّا أَنْ يَعْرِفَ حَلَّهَا وَإِنْ لَمْ تُسَاعِدْهُ الْعِبَارَةُ فِي الْحَالِ وَإِمَّا أَنْ تُسَاعِدُهُ الْعِبَارَةُ أَيْضًا عَلَى حَلِّهَا وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَلَا يَشُكُّ فِي بُطْلَانِ الشُّبْهَةِ بِخِلَافِ الْمُقَلِّدِ. وَبَعْدَ هَذَا التَّقْسِيمِ وَالتَّمْيِيزِ يَكَادُ يَكُونُ الْعِلْمُ مُرْتَسِمًا فِي النَّفْسِ بِمَعْنَاهُ وَحَقِيقَتِهِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفِ تَحْدِيدٍ، وَأَمَّا الْمِثَالُ فَهُوَ أَنَّ إدْرَاكَ الْبَصِيرَةِ الْبَاطِنَةِ تَفْهَمُهُ بِالْمُقَايَسَةِ بِالْبَصَرِ الظَّاهِرِ وَلَا مَعْنَى لِلْبَصَرِ الظَّاهِرِ إلَّا انْطِبَاعُ صُورَةِ الْمُبْصَرِ فِي الْقُوَّةِ الْبَاصِرَةِ مِنْ إنْسَانِ الْعَيْنِ كَمَا يُتَوَهَّمُ انْطِبَاعُ الصُّوَرِ فِي الْمِرْآةِ مَثَلًا، فَكَمَا أَنَّ الْبَصَرَ يَأْخُذُ صُوَرَ الْمُبْصَرَاتِ أَيْ يَنْطَبِعُ فِيهَا مِثَالُهَا الْمُطَابِقُ لَهَا لَا عَيْنُهَا فَإِنَّ عَيْنَ النَّارِ لَا تَنْطَبِعُ فِي الْعَيْنِ بَلْ مِثَالٌ يُطَابِقُ صُورَتَهَا، وَكَذَلِكَ يَرَى مِثَالَ النَّارِ فِي الْمِرْآةِ لَا عَيْنَ النَّارِ فَكَذَلِكَ الْعَقْلُ عَلَى مِثَالِ مِرْآةٍ تَنْطَبِعُ فِيهَا صُوَرُ الْمَعْقُولَاتِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهَا، وَأَعْنِي بِصُوَرِ الْمَعْقُولَاتِ حَقَائِقَهَا وَمَاهِيَّاتِهَا.
فَالْعِلْمُ عِبَارَةٌ عَنْ أَخْذِ الْعَقْلِ صُوَرَ الْمَعْقُولَاتِ وَهَيَّأْتَهَا فِي نَفْسِهِ وَانْطِبَاعَهَا فِيهِ كَمَا يُظَنُّ مِنْ حَيْثُ الْوَهْمُ انْطِبَاعُ الصُّوَرِ فِي الْمِرْآةِ، فَفِي الْمِرْآةِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ الْحَدِيدُ وَصِقَالَتُهُ وَالصُّورَةُ الْمُنْطَبِعَةُ فِيهَا، فَكَذَلِكَ جَوْهَرُ الْآدَمِيِّ كَحَدِيدِ الْمِرْآةِ وَعَقْلُهُ هَيْئَةٌ وَغَرِيزَةٌ فِي جَوْهَرِهِ وَنَفْسِهِ بِهَا يَتَهَيَّأُ لِلِانْطِبَاعِ بِالْمَعْقُولَاتِ، كَمَا أَنَّ الْمِرْآةَ بِصِقَالَتِهَا وَاسْتِدَارَتِهَا تَتَهَيَّأُ لِمُحَاكَاةِ الصُّوَرِ، فَحُصُولُ الصُّوَرِ فِي مِرْآةِ الْعَقْلِ الَّتِي هِيَ مِثَالُ الْأَشْيَاءِ هُوَ الْعِلْمُ، وَالْغَرِيزَةُ الَّتِي بِهَا يَتَهَيَّأُ لِقَبُولِ هَذِهِ الصُّوَرِ هِيَ الْعَقْلُ، وَالنَّفْسُ الَّتِي هِيَ حَقِيقَةُ الْآدَمِيِّ الْمَخْصُوصَةُ بِهَذِهِ الْغَرِيزَةِ الْمُهَيَّأَةِ لِقَبُولِ حَقَائِقِ الْمَعْقُولَاتِ كَالْمِرْآةِ، فَالتَّقْسِيمُ الْأَوَّلُ يَقْطَعُ الْعِلْمَ عَنْ مَظَانِّ الِاشْتِبَاهِ.
وَهَذَا الْمِثَالُ يُفْهِمُكَ حَقِيقَةَ الْعِلْمِ، فَحَقَائِقُ الْمَعْقُولَاتِ إذَا انْطَبَعَ بِهَا النَّفْسُ الْعَاقِلَةُ تُسَمَّى عِلْمًا، وَكَمَا أَنَّ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَالْأَشْجَارَ وَالْأَنْهَارَ يُتَصَوَّرُ أَنْ تُرَى فِي الْمِرْآةِ حَتَّى كَأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ فِي الْمِرْآةِ وَكَأَنَّ الْمِرْآةَ حَاوِيَةٌ لِجَمِيعِهَا، فَكَذَلِكَ الْحَضْرَةُ الْإِلَهِيَّةُ بِجُمْلَتِهَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَنْطَبِعَ بِهَا نَفْسُ الْآدَمِيِّ، وَالْحَضْرَةُ الْإِلَهِيَّةُ عِبَارَةٌ عَنْ جُمْلَةِ الْمَوْجُودَاتِ فَكُلُّهَا مِنْ الْحَضْرَةِ