مَعْرِضِ الِامْتِحَانِ فَقَدْ أَدْرَجْنَا فِيهَا مَا يَجْرِي عَلَى التَّحْقِيقِ مَجْرَى الْقَوَانِينِ.
امْتِحَانٌ ثَانٍ: اُخْتُلِفَ فِي حَدِّ الْعِلْمِ فَقِيلَ إنَّهُ الْمَعْرِفَةُ، وَهُوَ حَدٌّ لَفْظِيٌّ وَهُوَ أَضْعَفُ أَنْوَاعِ الْحُدُودِ فَإِنَّهُ تَكْرِيرُ لَفْظٍ بِذِكْرِ مَا يُرَادِفُهُ كَمَا يُقَالُ حَدُّ الْأَسَدِ اللَّيْثُ وَحَدُّ الْعُقَارِ الْخَمْرُ وَحَدُّ الْمَوْجُودِ الشَّيْءُ وَحَدُّ الْحَرَكَةِ النَّقْلَةُ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ لَفْظِيًّا بِأَنْ يُقَالَ مَعْرِفَةُ الْمَعْلُومِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ تَطْوِيلٍ وَتَكْرِيرٍ إذْ الْمَعْرِفَةُ لَا تُطْلَقُ إلَّا عَلَى مَا هُوَ كَذَلِكَ، فَهُوَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: حَدُّ الْمَوْجُودِ الشَّيْءُ الَّذِي لَهُ ثُبُوتٌ وَوُجُودٌ، فَإِنَّ هَذَا تَطْوِيلٌ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ لَفْظِيًّا. وَلَسْتُ أَمْنَعُ مِنْ تَسْمِيَةِ هَذَا حَدًّا، فَإِنَّ لَفْظَ الْحَدِّ مُبَاحٌ فِي اللُّغَةِ لِمَنْ اسْتَعَارَهُ لِمَا يُرِيدُهُ مِمَّا فِيهِ نَوْعٌ مِنْ الْمَنْعِ. هَذَا إذَا كَانَ الْحَدُّ عِنْدَهُ عِبَارَةً عَنْ لَفْظٍ مَانِعٍ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ عِبَارَةٌ عَنْ قَوْلٍ شَارِحٍ لِمَاهِيَّةِ الشَّيْءِ مُصَوِّرٍ حَقِيقَتَهُ فِي ذِهْنِ السَّائِلِ فَقَدْ ظَلَمَ بِإِطْلَاقِ هَذَا الِاسْمِ عَلَى قَوْلِهِ الْعَلْمُ هُوَ الْمَعْرِفَةُ. وَقِيلَ أَيْضًا إنَّهُ الَّذِي يُعْلَمُ بِهِ وَإِنَّهُ الَّذِي تَكُونُ الذَّاتُ بِهِ عَالِمَةً، وَهَذَا أَبْعَدُ مِنْ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ مُسَاوٍ لَهُ فِي الْخُلُوِّ عَنْ الشَّرْحِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى الْمَاهِيَّةِ، وَلَكِنْ قَدْ يُتَوَهَّمُ فِي الْأَوَّلِ شَرْحُ اللَّفْظِ بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُ اللَّفْظَيْنِ عِنْدَ السَّائِلِ أَشْهَرَ مِنْ الْآخَرِ فَيُشْرَحُ الْأَخْفَى بِالْأَشْهَرِ، أَمَّا الْعَالِمُ وَيَعْلَمُ فَهُمَا مُشْتَقَّانِ مِنْ نَفْسِ الْعِلْمِ، وَمَنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ الْمَصْدَرُ كَيْفَ يَتَّضِحُ لَهُ بِالْمُشْتَقِّ مِنْهُ وَالْمُشْتَقُّ أَخْفَى مِنْ الْمُشْتَقِّ مِنْهُ؟ وَهُوَ كَقَوْلِ الْقَائِلُ فِي حَدِّ الْفِضَّةِ: أَنَّهَا الَّتِي تُصَاغُ مِنْهَا الْأَوَانِي الْفِضِّيَّةُ. وَقَدْ قِيلَ فِي
حَدِّ الْعِلْمِ: إنَّهُ الْوَصْفُ الَّذِي يَتَأَتَّى لِلْمُتَّصِفِ بِهِ إتْقَانُ الْفِعْلِ وَأَحْكَامِهِ، وَهَذَا ذِكْرُ لَازِمٍ مِنْ لَوَازِمِ الْعِلْمِ فَيَكُونُ رَسْمِيًّا، وَهُوَ أَبْعَدُ مِمَّا قَبْلَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ أَخَصُّ مِنْ الْعِلْمِ فَإِنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا بَعْضَ الْعُلُومِ وَيَخْرُجُ مِنْهُ الْعِلْمُ بِاَللَّهِ وَصِفَاتِهِ إذْ لَيْسَ يَتَأَتَّى بِهِ إتْقَانُ فِعْلٍ وَأَحْكَامِهِ، وَلَكِنَّهُ أَقْرَبُ مِمَّا قَبْلَهُ بِوَجْهٍ فَإِنَّهُ ذِكْرٌ لَازِمٌ قَرِيبٌ مِنْ الذَّاتِ لِيُفِيدَ شَرْحًا وَبَيَانًا بِخِلَافِ قَوْلِهِ مَا يَعْلَمُ بِهِ وَمَا تَكُونُ الذَّاتُ بِهِ عَالِمَةً. فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا حَدُّ الْعِلْمِ عِنْدَكَ؟ فَاعْلَمْ أَنَّهُ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْإِبْصَارِ وَالْإِحْسَاسِ وَلَهُ حَدٌّ بِحَسَبِهِ، وَيُطْلَقُ عَلَى النَّخِيلِ وَلَهُ حَدٌّ بِحَسَبِهِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الظَّنِّ وَلَهُ حَدٌّ آخَرُ، وَيُطْلَقُ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهٍ آخَرَ أَعْلَى وَأَشْرَفَ، وَلَسْتُ أَعْنِي بِهِ شَرَفًا بِمُجَرَّدِ الْعُمُومِ فَقَطْ بَلْ بِالذَّاتِ وَالْحَقِيقَةِ لِأَنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ مُحِيطٌ بِجَمِيعِ التَّفَاصِيلِ وَلَا تَفَاصِيلَ وَلَا تَعَدُّدَ فِي ذَاتِهِ.
وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى إدْرَاكِ الْعَقْلِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالْبَيَانِ، وَرُبَّمَا يَعْسُرُ تَحْدِيدُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْحَقِيقِيِّ بِعِبَارَةٍ مُحَرَّرَةٍ جَامِعَةٍ لِلْجِنْسِ وَالْفَصْلِ الذَّاتِيِّ، فَإِنَّا بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ عَسِيرٌ فِي أَكْثِرْ الْأَشْيَاءِ بَلْ أَكْثَرُ الْمُدْرَكَاتِ الْحِسِّيَّةِ يَتَعَسَّرُ تَحْدِيدُهَا، فَلَوْ أَنَّا أَرَدْنَا أَنْ نَحُدَّ رَائِحَةَ الْمِسْكِ أَوْ طَعْمَ الْعَسَلِ لَمْ نَقْدِرْ عَلَيْهِ. وَإِذَا عَجَزْنَا عَنْ حَدِّ الْمُدْرَكَاتِ فَنَحْنُ عَنْ تَحْدِيدِ الْإِدْرَاكَاتِ أَعْجَزُ وَلَكِنَّا نَقْدِرُ عَلَى شَرْحِ مَعْنَى الْعِلْمِ بِتَقْسِيمٍ وَمِثَالٍ، أَمَّا التَّقْسِيمُ فَهُوَ أَنْ نُمَيِّزَهُ عَمَّا يَلْتَبِسُ بِهِ وَلَا يَخْفَى وَجْهُ تَمَيُّزِهِ عَنْ الْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ وَسَائِرِ صِفَاتِ النَّفْسِ، وَإِنَّمَا يَلْتَبِسُ بِالِاعْتِقَادَاتِ، وَلَا يَخْفَى أَيْضًا وَجْهُ تَمَيُّزِهِ عَنْ الشَّكِّ وَالظَّنِّ لِأَنَّ الْجَزْمَ مُنْتَفٍ عَنْهُمَا وَالْعِلْمُ عِبَارَةٌ عَنْ أَمْرٍ جَزْمٍ لَا تَرَدُّدَ فِيهِ وَلَا تَجْوِيزَ. وَلَا يَخْفَى أَيْضًا وَجْهُ تَمَيُّزِهِ عَنْ الْجَهْلِ فَإِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَجْهُولِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ بِهِ وَالْعِلْمُ مُطَابِقٌ لِلْمَعْلُومِ، وَرُبَّمَا يَبْقَى مُلْتَبِسًا بِاعْتِقَادِ الْمُقَلِّدِ الشَّيْءَ عَلَى مَا هُوَ بِهِ عَنْ تَلَقُّفٍ لَا عَنْ بَصِيرَةٍ وَعَنْ جَزْمٍ لَا عَنْ تَرَدُّدٍ، لِأَجْلِهِ خَفِيَ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ حَتَّى قَالُوا فِي حَدِّ الْعِلْمِ: إنَّهُ