وأما الطبقة الثانية فهي اعتماد موقف موضوعيّ بغير حكم مسبق، يتجاوز كل الإسقاطات التي من شأنها أن تعطّل عمليّة الفهم.

وأما الطبقة الثالثة فهي (تقنية) صرفة تقوم على ضرورة الإحاطة الجيّدة بأدوات البحث التاريخيّ: بدا باللغة وجمع المادّة الأوّلية، وانتهاء بطرائق المقارنة والموازنة والنقد والتركيب.. إلى آخره..

وإذا كان الغربيون قد بلغوا حد التمكن والإبداع في هذه الدائرة الأخيرة، فإنهم في نهاية الأمر لم يستطيعوا أن يقدّموا أعمالا علميّة بمعنى الكلمة لواقعة السيرة، ولا قدروا حتى على الاقتراب من حافّة الفهم، بسبب أنهم كان يعوزهم التعامل الأكثر علميّة مع الدائرتين الأوليين: احترام المصدر الغيبيّ، واعتماد الموقف الموضوعيّ.. بصدد النقطة الأولى فإنّه يصعب علينا أن نطلب من الغربيين النصارى والمادّيّين- وبخاصة الأخيرين منهم- التحقّق بإيمان كهذا.. بل إنه أمر يكاد يكون مستحيلا.. ولكن من ناحية علمية، بالمفهوم الشامل للعلم، فإنّه لا بدّ من هذا التحقق إذا أريد إدراك واقعة السيرة ومتابعة حبكة نسيجها ذي الخلفية الغيبية، باعتباره حركة دين سماويّ قادم من (فوق) وليس تجربة بشرية متخلّقة في تراب الأرض.

أما بصدد الدائرة الثانية، فإنّ مما يؤخذ على الباحث الغربيّ تجاوزه (الموضوعية) في مناهج تعامله مع السيرة.. فلو أنه حاول التزامها، وحرر عقله من عوامل الشد الزمنية والمكانيّة والمذهبيّة والنفسيّة، ولو أنه قدر على تجاوز النسبيّات وضغوط الإسقاطات المرحلية، فإنه كان سيتمكن من تقديم أعمال أنضج بكثير، وأقرب إلى روح الواقعة، وتركيبها، وإيقاعها..

إن منهج البحث في السيرة للمؤرخ الغربي أو المستشرق، يمثل بحد ذاته جدارا يصدّه عن الفهم الحقيقيّ لوقائع السيرة ونسيجها العام..

طور بواسطة نورين ميديا © 2015