إن (وات) من حيث لا يشعر القارئ أحيانا، يمارس تزييفا للسيرة قد لا يكون متعمدا.. إنه يخفّف من ألوانها العميقة المتميّزة، ويجرّد جدلها، أو حوارها، في الداخل والخارج، أي: بين المسلمين أنفسهم، وبينهم وبين الخصوم، من أبعاده (الدراميّة) التي تمنحه الفاعليّة والحيويّة والعمق..
مثلا.. إنه يستنتج أنّ اضطهاد الزعامة الوثنيّة للمسلمين لم يكن عنيفا بالشكل الذي تصوّره الروايات، وأن هجرتهم إلى الحبشة لم تكن بسبب العذاب والاضطهاد.. وأن قريشا لم تفكر يوما بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم.. وأن وحدة المسلمين الداخلية كانت تهتز بين الحين والحين بمحاولة الانشقاق تارة، وبالعصيان الديني تارة أخرى.. بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم دخل مرة في مساومة مع الوثنية.. وفي أي شيء؟ في أعز ما جاء به، وأشدّه تمنعا على المساومة والتنازل: وحدانية الله المطلقة، ورفض عبادة الأصنام أو الاعتراف بها بالحسم الذي يليق بجدّية هذا الدين.
قد يسأل سائل: وما علاقة العمق اللوني لنسيج السيرة، والبعد الدرامي لعلائقها المتنوعة، بالبحث العلمي في التاريخ؟!
والجواب واضح تماما.. إن البحث التاريخيّ العلميّ الجادّ يجب أن يحقّق أكبر قدر من الاقتراب من صورة الواقعة التاريخية وصيغها ... أن يسعى لاستعادتها كما تخلّفت وتلوّنت فعلا.. أن يستعيد- مرّة أخرى- معدّلات تشكّلها بالدرجة وبالنوع نفسهما قدر الإمكان.
فإذا عجز البحث، بدرجة أو أخرى عن تحقيق هذه الاستعادة سواء في صيغ الواقعة التاريخية أو طبيعة علاقتها الحوارية مع كافة الأطراف.. إذا عجز عن وضع يده على إيقاعها بالدرجة نفسها التي كانت عليها.. فإن عجزه هذا لا يعدو أن يكون عجزا علميا، أي: عجزا في قدراته على البحث والتحليل والتوصّل إلى كشف النقاب عن الوقائع كما تشكّلت