هولاكو وجنوده بين شاطئي دجلة، ومن الذي يتسطيع أنْ يُحْصِي ما حرَّقه الصليبيون في حملاتهم التي جاءت في موجات متتالية مثل موجات التتار، وأشد فتكاً، وظلت نحو مائتي سَنَةٍ تتشبث بمواطئ أقدامها، وبالإمارات التي اتخذتها رؤوس جسور لاجتياح بلاد الإسلام جملة، وكانت الكتب والمكتبات طوال هذه المعارك هدفاً مقصوداً حيناً، ووقوداً للنيران الطائشة حيناً آخر، وإنْ أصاب القدس، وطرابلس، وعسقلان، وغَزَّة، والمَعَرَّةَ، وغيرها من المدن وإهلاكاً وإحراقاً، كيف يبقى على مكتباتها؟ وبحسبنا أنْ نذكر أنَّ «بعض المؤرِّخين قدَّر ما أتلفه الصليبيون في (طرابلس) وحدها بثلاثة ملايين مجلد» (?).

ويحدِّثنا التاريخ «أنَّ أحد الأطباء رفض دعوة سلطان بخارى للإقامة في بلاطه، لأنه يحتاج إلى أربعمائة بعير لنقل مكتبته» (?).

فإذا كانت الكتب في مدينة واحدة (طرابلس) نحو ثلاثمائة ملايين، والكتب التي في مكتبة خاصة لواحد من الأطباء تبلغ حِمْلَ أربعمائة بعير، فكم يبلغ ما كان في المدن الإسلامية كلها؟ وما كان في المكتبات الخاصة كلها؟

فإذا كان هو حجم التراث، وكان الباقي منه نحو ثلاثة ملايين مخطوطة فقط، فإذا عرفنا ما بقي بأيدينا، وما بقي بأييدي المُسْتَشْرِقِينَ، وما نشرناه، وما نشره المُسْتَشْرِقُونَ، وماذا نشروه من التراث؟ ولماذا نشروه؟ وكيف نشروه؟

إذا عرفنا ذلك، نستطيع أنْ نفصل في القضية، وأنْ نُقَدِّرَ للقوم عملهم حق قدره، لا نَنْقُصُهُمْ، ولا نبخسهم، ولا نزيدهم، ولا نُمَجِّدُهُم بدعوى (الاعتدال) و (الإنصاف) أو تغطية لشعور العجز والهوان.

وسنحاول في الصفحات القادمة أنْ نُقَدِّمَ نموذجاً لهذه الدراسة، عَلَّهَا تكون خطوة على الطريق، نحو الحكم (المنهجي) (العلمي) (الموضوعي) على عمل المُسْتَشْرِقِينَ، ودورهم في التراث.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015