توطئة

الحضارة هي أنفس وأنبل وأخلد ما للأمة من تراث في جماع علومها وآدابها وفنونها، ولئن كان من صنع الطبقة الممتازة فيها فهو للإنسانية جمعاء لا فرق بين عرق ولغة وعقيدة، أو حاجز من زمان ومكان، مادامت تشارك فيه على أقدارها متأثرة ومبدعة ومؤثرة، وتتوارث أفضله وتبنى عليه في سبيل تطويرها وتفاهمها وتكاملها.

وقد كان للعرب والمستعربة والذين دخلوا في الإسلام تراث ومشاركة وإبداع منذ أقدم العصور، ولكنه لم يصبح عميقاً شاملاً متبلوراً إلا بالإسلام؛ فالإسلام مد فتوحه من مكة إلى الشرق والغرب، مستقراً في بعض بلدانها، ماراً أو مجاوراً بعضها الآخر. وقد دخل فيه كثيرون، واتسع سماحه- ولاسيما في عهد حكامه من العرب - لغيرهم من أصحاب العقائد. وكان لهؤلاء علوم وآداب وفنون فأدخلوها فيه، وجمعوا بين علومه وبينها، واتخذوا العربية لغة الكتاب لأدائها، فحلت محل الفارسية والسريانية والقبطية واليونانية واللاتينية من فارس إلى جبال البرانس، وتجاوزتها إلى غيرها من لغات أوربا، وحملت الدول الإسلامية على استبدال حروفها بحروفها، حتى استوعبت تراث الإسلام استيعاباً لم يتهيأ لمعظم اللغات الشرقية التي دان أهلها بالإسلام كالفارسية والتركية والأوردية، أو لأخواتها من اللغات السامية كالعبرية والسريانية والكلدانية. فكونت، في العصر الوسيط، حلقة بين تراث اليونانية القديمة وبين اللاتينية الحديث أرست عليه أوربا نهضتها وأبدعت من تراثاً، حتى إذا تهيأت لنا استعادته بنيناً عليه نهضتنا.

وظهر على طرفي النهضتين المستشرقون؛ فتناولوا تراثنا بالكشف والجمع والصون والتقويم والفهرسة، ولم يقفوا منه عندها فيموت بين جدران المكتبات والمتاحف والجمعيات، وإنما عمدوا إلى دراسة وتحقيقه ونشره وترجمته والتصنيف فيه: في منشئه وتأثره وتطوره وأثره وموازنته بغيره، واقفين عليه مواهبهم ومناهجهم وميزاتهم، مصطنعين لنشره المعاهد والمطابع والمجلات ودوائر المعارف والمؤتمرات، حتى بلغوا فيه، منذ مئات السنين، وفي شتى البلدان، وبسائر اللغات، مبلغاً عظيماً

طور بواسطة نورين ميديا © 2015