ومثل هذا ما ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث بريدة المشهور قال فيه: "وإذا حاصرت أهل حصن، فسألوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله فإنك لا تدري ما حكم الله فيهم ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك".
ولهذا قال الفقهاء: إنه إذا حاصر الإمام حصنا فنزلوا على حكم حاكم جاز إن كان رجلا مسلما حرا عدلا من أهل الاجتهاد في أمر الجهاد، ولا يحكم إلا بما فيه حظ للإسلام من قتل أو رق أو فداء، وتنازعوا فيما إذا حكم بالمن فأباه الإمام هل يلزم حكمه، أو لا يلزم، أو يفرق بين المقاتلة والذرية؟ على ثلاثة أقوال، وإنما تنازعوا في ذلك لظن المنازع أن المن لا حظ فيه للمسلمين.
والمقصود أن تخيير الإمام والحاكم الذي نزلوا على حكمه هو تخيير رأي ومصلحة بطلب أي الأمرين كان أرضى لله ورسوله فعله، كما ينظر المجتهد في أدلة المسائل، فأي الدليلين كان أرجح اتبعه.
ولكن معنى قولنا: يخير أنه لا يتعين فعل واحد من هذه الأمور في كل وقت، بل قد يتعين فعل هذا تارة، وفعل هذا تارة، وقول الله تعالى في القرآن {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [4/47] يقتضي فعل أحد الأمرين، وذلك لا يمنع تعين هذا في حال وهذا في حال، كما في قوله تعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} [52/9] فتربص أحد الأمرين لا يمنع بعينه إذا كان الجهاد فرض عين علينا بعض الأوقات، فحينئذ يصيبهم الله بعذاب بأيدينا، كما في قوله: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} [14-15/9] .