فأمّا "الشهادةُ" فقد استقرَّ أمرُها في كتاب اللهِ وفي سنَّةِ رسولِ الله، وهو أنّ يأتوا بأربعة شهداء عدولٍ يشهدون على الرُّؤيَةِ، وهو قول مالكٍ وجميعِ أصحابه.
وأمّا "الإقرارُ" وهو الأصلُ في إثباتِ الحقوقِ، فإنّ العلّماءَ اختلفوا فيه، هل للمُقِرِّ بالزِّنى أنّ يرجِعَ عن الإقرارِ أم لا؟ فمنهم من قال: إنَّ له أنّ يرجِعُ، (*) قال به الجمهورُ، وهو إحْدَى الرِّوايتَين عن مالكٍ، ومنهم من قال: إنَّ له أنّ يرجِعُ (*) إنَّ ذكر وجهًا، وهي الرِّواية الثّانية عندَهُ.
ومنهم من قال: لا يرجِعُ.
فأمّا من قال: لا يُقْبَلُ الرجوعُ؛ فلأنّ الإنسانَ على نفسِهِ بصيرةٌ، وهو أعلمُ.
وأمّا من قال: إنّه يرجِعُ إنَّ ذكَر وجهًا؛ فلأنّ الحدّ ممّا يَسقُطُ بالشُّبْهَةِ، وهذه شبهةٌ، مع أنّ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - نبّه عليها ماعزًا فقال: "لَعَلَّكَ قَبَّلتَ، لَعَلَّكَ نَظَرتَ". (?)
وأمّا من قال: إنّه يرجِعُ مطلقًا، فهو الحقُّ، وعليه تدلُّ الأحاديثُ المذكررةُ آنفًا في ترديد النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - كلَّ من أَقَرَّ بالزِّنى، وتنبيهِهِ له على الرّجوعِ، وكذلك ينبغي أنّ يفعَلَ كلُّ حاكم، فلا قُدْوَةَ أعظمُ من محمّد - صلّى الله عليه وسلم - ولا أُسوَةَ فوقَهُ.
وقال أبو حنيفة (?): لا يَثبُتُ الزِّنا بالإقرارِ حتّى يكونَ أربعَ مرّاتٍ في أَربَعِ مجالسَ، واحتجّ بأن النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - رَدَّ ماعزًا أربعَ مرّاتٍ.
قلنا: لم يَرُدَّهُ ليثبُتَ الإقرارُ، إنّما ردَّهُ رجاءَ الرُّجوعِ، ألَّا ترى أنّه لم يَرُدَّ الغامِدَيَّة ولا سِوَاها، ولا يجوزُ أنّ يُحمَلَ على الشّهادةِ؛ لأنّ الشّهادةَ فرعٌ، والإقرارَ أصلٌ، ولا يجوزُ أنّ يُحمَلَ الأصلُ على الفرع.
وأمّا الحملُ إذا ظَهَرَ ولم يَسبِقهُ سببٌ جائزٌ، فإنّه يُعلَمُ قطعًا أنّه من حرامٍ، فثبتتِ المقدِّمةُ بالنَّتيجةِ، وهو استدلٌ معلومٌ من طريقِ العادَةِ يُسَمَّى قياسَ الدّلالةِ،