الاستعجال، فما كان من صاحبنا إلّا أن ينزل طائعا مختارا عند رأى شيخه، وأن يأتمر بمشورته ويقتدي بهَدْيه، راضيًا كلَّ الرِّضَى، ومثنيا كل الثناء الحسن على أستاذه رحمة الله عليه.
ومَضَت الأيام، وتصَرَّمَت الشُّهور، وَمَحَت سَنَةٌ أختَها، وصاحبُنا يعود إلى "المسالك" بين الفينة والأخرى، كلّما آنَس فسحة من الوقت، أو غفلة من شواغل الدّهر والناس، فيقرأ ما أنجزته شقيقته عائشة، مراجعا ومستدركا، واضعا أمام عينيه وصية شيخه سيد أحمد صقر بوجوب إعطاء نص "المسالك" حظّه الكامل من النظر والتأمُّل وإنْ طال الزَّمن، وعدم العجلة في القراءة والضبط، ولم يدّخر صاحبنا وشقيقته سعيا في العمل بهذه الوصيّة، فتَطَلَّبا جلّ الوسائل المتاحة لهما في غربتهما من أجل إخراج النَّصِّ سليما معافى من آفات التّصحيف والتّحريف، ومع هذا لا يزال صاحبُنا يرى أنّه قد يكون من الحق لقرّاء هذه الأسفار أن يعترف هو وشقيقته لهم بأنّهما -وبعد الدَّأب والنَّصب وإنفاق شطر من العمر في إعدادها- ما كتبا مبحثا من مباحثها ولا قرآ نَصًّا من نصوصها إلّا وهما يعلمان أنه محتاجٌ إلى استئناف العناية به وتجديد النظر فيه، ولطَالَمَا مَنَّيا أنفسهما بهذا النظر، ولكنّهما تيقّنّا بأنّ الأمر يَضيقُ عنه نطاق الطَّمَع، فالأيّام تمضي، والظّروف تتعاقب، مختلفة متباينة أشدّ الأختلاف وأعظم التّباين، ولكنّها متَّفِقة على الحيلولة بينهما وبين ما كانا يريدانه ويأملانه من تجديد العناية وتدقيق النظر، ولكن مما لا يُدرَك كلّه لا يُترك جلّه؛ لأن صاحبنا يرى أنّنا أحوج ما نكون -في هذه الظروف- إلى بعث دفائن إرثنا المخطوط، الّذي يضمُّ بين جَنَبَاتِه ثروة فكريّة لا تفنَى، وكنوزا علمية لا تنفد، تمنحنا عِزَّ الأصالة وشُموخَ الكبرياء وشَرَفَ الانتماء، كلّ هذا تمهيدًا للمرحلة