سألت القبر: أين المال والمتاع؟ وأين الجمال والسحر؟ وأين الصحة والقوة؟ وأين المرض والضعف؟ وأين القدرة والجبروت؟ وأين الخنوع والذلة؟.. قال: كل هذه صور فكرية لا تجيء إلى هنا، لأنها لا تؤخذ من هنا! فلو أنهم أخذوا هدوء القبر لدنياهم، وسلامة لنزاعهم، وسكونه لتعبهم، لسخروا من نواميس الكون! إن هؤلاء الأحياء يحملون في ذواتهم معانيهم الميتة وكان يجب أن تدفن وتطهر أنفسهم منها، فمعنى ما في الإنسانية من شر هو معنى ما في الناس من تعفن الطباع والأخلاق.
يكذب أحدهم على أخيه فيعطيه جيفة حقيقية ميتة، ويكيد بعضهم لبعض فيتطاعمون من جيف الحوادث المسمومة، ويمكر الخائن فإذا جيفة عمل صالح قد مات، فكل مضغة تبتلعها من حق أخيك الحي هي كمضغة تفتلذها من لحمة وهو ميت: لا تعطيك إلا جيفة، ثم أنت من بعد لست بها إنساناً ولكنك وحش ... بل وحش دنيء ليست له فضيلة الوحشية التي من قوة تأبى أن تمس لحوم الموتى! واهاً لك أيها القبر! لا تزال تقول لكل إنسان تعال، ولا تبرح كل الطرق تفضي إليك فلا يقطع بأحد دونك ولا يرجع من طريق راجع، وعندك وحدك المساواة، فما أنزلوا قط فيك ملكاً عظامه من ذهب، ولا بطلاً عضلاته من حديد، ولا أميراً جلده من ديباج، ولا وزيراً وجهه من حجر، ولا غنياً جوفه خزانة، ولا فقيراً علقت في أحشائه مخلاة! ألا ويحك أيها القبر! لم لا تأتي إلا في الآخر؟ ولم لا تضع حدود معانيك بين الأحياء بعضهم من بعض حتى يقوم بين الضعف والقوة حد المساواة، وبين النفوس والشهوات حد التقوى، وبين الحرام والحلال حد الله! يا شقاء أهل الأرض! أما أنهم لو وضعوا فيها موضعاً من العناية لما كان الإبهام في السريرة، ولا كانت الغفلة في النفس، ولا كان النسيان في الطبع، ولولا هذه الثلاث في هذه الثلاثة لما كان المجهول البشري كله في شيء واحد وهو القبر.
إن أحزاننا وهمومنا ودموعنا هي كل المحاولة الإنسانية العاجزة التي نحاول بها أن نكون في ساعة من الساعات مع أمواتنا الأعزاء! هم يأخذوننا إليهم اختلاجاً وانتزاعاً في هذه الأحزان والهموم والدموع، فكأنها أمكنة تخلق من الأثير الروحي وتتجسم من معانيها كي تصلح أن يلتقي فيها روح الحي وهو حي بروح الميت وهو ميت، كما يتلاقى روحا الحبيبين في قبلتهما أول مرة إذ يخلق قلباهما لهذا اللقاء جواً أثيرياً من الزفرات واللوعات بين الشفاه المتلامسة.
أو لعل الموت كما يجرد الحي من روحه ينتزع من أهله شهوات أرواحهم فيميته مدة من الزمن في القلب وفي العين وفي الفكر، وبذلك يرد جميع المحزونين إلى المساواة، فأهل كل ميت وإن علا كاهل كل ميت وإن نزل، وتموت بالموت الفروق الإنسانية في المال والجاه والقوة والجمال، حتى لا يبقى إلا الدمعة واللوعة والحسرة والزفرة، وهذه أملاك الإنسانية المسكينة! يا هم من يحس ويعرف ويرى كيف يموت العزيز عليه وكيف يتحول من يحبه إلى ذكرى! إن ما يعمل في القبر يعمل قريب منه في القلب!.
وما يعرف الحي أن الذاكرة فيه هي حاسة اللانهاية إلا حين يموت له الميت العزيز، فلا يكون في الدنيا وهو في ذاكرته بمعانيه وصورته لا يبرحها.
وليس ينزل الحي من أمواته في القبر إلا من يقول له إنني منظرك إلى ميعادا! أما لو عقلها الأحياء لعرفوا أن الموت وحده هو ناموس ارتقاء الروح ما بقيت في الدنيا، ولكن ضجيج الشهوات- على أنه لا يعلو رنة كأس ولا يغطي همسة دينار ولا يخفي ضحكة امرأة- يطمس على الكلمة الأزلية التي فيها كل قوة الصدق وكل صراحة الحقيقة، فإذا هي خافتة لا تكاد تثبت، غامضة لا تكاد تبين! أذلك سحر الحياة فينا، أم سوء استعدادنا لها، أم شراهة الجسم من لذة الحياة لابتلاع كل ما في الكون منها، أم حماقة الكأس التي تريد أن تغترف البحر لتكون له شاطئين من الزجاج، أم بلاهة الإنسان الذي يريد أن يطوي فيه معنى الخالق ليكون إله نفسه..
ويحه من غريق أحمق يرى الشاطئ على بعد منه فيتمكث في اللجة مرتقباً أن يسبح الشاطئ إليه ... ويثبت الشاطئ ويدع الأحمق تذوب ملحة روحه في الماء! اسبح ويحك وانج، فإن روح الأرض في ذراعيك، وكل ضربة منهما ثمن ذرة من هذا الشاطئ.