فأما الملحد بغير علة فهذا لا يوجده أب ولا تضعه أم إذ يجب أن يكون طباعه له وحده وميراثه منه وحده حتى يصدق زعمه أنه ألحد للبرهان وحده، فما يجحد الجاحد إلا ليجعل نفسه في الرفاهية من الأمر والنهي، ويخرج بها من حكم الضرورة، وما بين المؤمن وربه، حتى كأن فيه شيئا يلذعه بالجمر فما يستريح من لذعة إلا قدر ما يجم ليحتمل للذعة بعدها.
يا إلهي إنما يحبك المؤمنون ويكابدون في رضاك على مقدار منك لا منهم فأنت تقذف قلب المؤمن بضرورات كشعل البراكين وتضرب روحه من مصائبه بسلسلة جبال مفتولة وتتركه في الأرض يشعر كأنما خر عليه سقف العالم! شبه خلفها، وظلمات تنتهي بعد حين إلى مد النهار الأكبر ومن الضرورات والمصائب والآلام يتخلق الجو الحساس الذي يبسط فيه الإنسان جناحي روحه ويسمو بها على التراب والمادة.
الجو الجو: هذه تغريدة البلبل في قفصه.
الغذاء الغذاء: هذه قوقأة الدجاجة في قفصها.
أيقيس الإنسان نفسه على قياس من الطبيعة في قوتها المتراكبة، ومظهرها المسخر لكل ما يتفق، وتركيبها المبني على سهولة الاحتمال، ونظامها الميسر لعدم المبالاة؟ ألا ما أحمق الزهرة التي علمت أن الدوحة التي لا تقتلعها إلا العاصفة العاتية فقالت: الآن أهزأ بالنسيم! ثم لمسها النسيم فرمى بها ورقة ورقة! كأن الشكل الإنساني نقص إنساني، وكأن الإنساني لم يجئ إلى الدنيا بأكمله وكأنه خلق منه إلا قدر لغرض ما، كأنه تركيب في يد الصانع الأعظم ألقى منه جزءا في مرجل الفلك الأرضي ليغلي قليلا ... ثم يتطاير ويجتمع فيتلقاه من بعد.
كأن هذا الإنسان تحت هذه الضغطة في هذه الفورة في هذا الفلك، مادة يطعم جوا لتتحول ولتتحول ليس غير. ألا ما أحمقه وهو في المرجل على الوقدة الحامية إذا أبى أن يغلى! ... وما أسخفه وهو في المصفاة تحت الضغطة الثقيلة إذا أبى أن يعصر! ... وما أجهله وهو في الحياة الفانية إذا نسي أنه سيموت! لا تغتري أيتها الحبة الصغيرة المختبئة في كدسة من القمح تتحدر في ثقب الرحى، ولا تحسبي أنك من لهو ولعب تنبعثين هناك وهنا بين الحب، إنك في رفق ولكنه رفق الحجرين الآكلين اللذين لا يدعان شيئا ولا يفلتان شيئا وإنما يرفقان بك قليلاً قليلاً وليجيدا طحنك كثيراً كثيراً! فتحنا القبر وضرحنا للميت العزيز. لم أقل أنه مات، بل قلت إن موته قد مات! كأن الحي على هذه الأرض هو القبر الإنساني لا الجسم الإنساني، فإنك لتجد قبورا من ألف سنة ولن تجد إنسانا في بعض عمرها، أما ترى هموم الدنيا وأحزانها كيف لا يخلو منها أحد، وكيف تخرج من النعيم كما تخرج من البؤس؟ ما أحسبها إلا صوراً من ظلمة القبر يجيء القبر فيها حيناً بعد حين إلى ميته الذي لم يمت! من يهرب من شيء تركه وراءه، إلا القبر، فما يهرب أحد منه إلا وجده أمامه، هو أبدا ينتظر غير متململ، وأنت أبدا متقدم إليه غير متراجع، وليس في السماء عنوان لما يتغير إلا اسم الله، وليس في الأرض عنوان لما يتغير إلا اسم القبر.
وأينما يذهب الإنسان تلقته أسئلة كثيرة: ما اسمك؟ ما صناعتك؟ كم عمرك؟ كيف حالك؟ ماذا تملك؟ ما مذهبك؟ ما دينك؟ ما رأيك؟ ... ثم يبطل هذا كله عند القبر كما تبطل اللغات البشرية كلها في الفم الأخرس، وهناك يتحرك اللسان الأزلي بسؤال وحد للإنسان: ما أعمالك؟ أيها المتقاتلون على الدنيا والإنسان إلى حين! إن تنازع البقاء مذهب فلسفي بري لا إنساني ... فإنها الثيران هي التي تجد من القوة أن تنطح في المجزرة وتنسى لم هي في المجزرة! فتحنا القبر وأنزلنا الميت العزيز الذي شفي من مرض الحياة، ووقفت هناك، بل وف التراب المتكلم يعقل عن التراب الصامت ويعرف منه أن العمر على ما يمتد محدود بلحظة، وأن القوة على ما تبلغ محدودة بخمود، وأن الغايات على ما تتسع محدودة بانقطاع، وحتى القارات الخمس محدودة بقبر!..
يا عجباً! القبور مأهولة بملء الدنيا وليس فيها أحد! أية ذرة من التراب هي التي كانت نعمة ورغداً، وأيتها كانت بؤساً وشقاءً، وأيتها التي كانت حباً ورحمة، وأيتها كانت بغضاً وموجدة؟