سأستعطف الأيام فيك لعلها ... بيوم سرور في هواك تثيب
هذه الأبيات في شعر محمد بن أمية مروية ورويت ههنا للمجنون وفيها لعريب ثقيل أول ولعبد الله بن العباس ثاني ثقيل ولأحمد بن المكي خفيف ثقيل:
وأفردت أفراد الطريد وباعدت ... إلى النفس حاجات وهن قريب
لئن حال يأس دون ليلى لربما ... أتى اليأس دون الأمر وهو قريب
ومنيتني حتى إذا ما رأيتني ... على شرف للناظرين يريب
صددت وأشمت العدو بصرمنا ... أثابك يا ليلى الجزاء مثيب
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال: حدثنا محمد بن زكريا الغلابي قال: حدثنا مهدي إبن سابق قال: حدثنا بعض مشايخ بني عامر أن المجنون مرّ في توحشه فصادف حي ليلى راحلاً ولقيها فجأة فعرفها وعرفته فصعق وخرّ مغشياً على وجهه وأقبل فتيان من حي ليلى أخذوه ومسحوا التراب عن وجهه وأسندوه إلى صدورهم وسألوا ليلى أن تقف له وقفة فرقت لما رأته به وقالت: أما هذا فلا يجوز أن أفتضح به ولكن يا فلانة لامة لها: إذهبي إلى قيس فقولي له ليلى تقرأ عليك السلام وتقول لك أعزز عليّ بما أنت فيه، ولو وجدت سبيلاً إلى شفاء دائك لوقيتك بنفسي منه.
مضت الوليدة إليه وأخبرته بقولها فأفاق وجلس وقال: ابلغيها السلام وقولي لها: هيهات، إن دائي ودوائي أنت وإن حياتي ووفاتي لفي يديك، ولقد وكلت بي شقاء لازماً وبلاء طويلا.
ثم بكى وأنشأ يقول:
أقول لصحابي هي الشمس ضوؤها ... قريب ولكن في ناولها بُعد
لقد عارضتنا الريح منها بنفحة ... على كبدي من طيب أرواحها برد
فما زلت مغشياً عليّ وقد مضت ... أناة ولا عندي جواب ولا رد
أقلب بالأيدي وأهلي بعولة ... يفدونني لو يستطيعون أن يفدوا
ولم يبقَ إلا الجلد والعظم عارياً ... ولا عظم لي إن دام ما بي ولا جلد
أدنياي ما لي في إنقطاعي ورغبتي ... إليك ثواب منك دين ولا نقد
عديني بنفسي أنت وعداً فربما ... جلا كربة المكروب عن قلبه الوعد
وقد يبتلى قوم ولا كبليتي ... ولا مثل جدي في الشفاء بكم جد
غزتني جنود الحب من كل جانب ... إذا حان من جند أقول أتى جند
وقال أبو نصر أحمد بن حاتم: كان أبو عمرو المدني يقول: قال نوفل بن مساحق: عن المجنون أن سبب نوحشه أنه كان يوماً بضرية جالساً وحده إذ ناداه مناد من الجبل:
كلانا يا أخيّ يحب ليلى ... بفيِّ وفيك من ليلى التراب
لقد خبلت فؤادك ثم ثنت ... بقلبي فهو مهمومٌ مصاب
شركتك في هوى من ليس تبدي ... لنا الأيام منه سوى إجتناب
قال: فتنفس الصعداء وغشي عليه وكان هذا سبب توحشه، فلم يُرَ له أثر حتى وجده نوفل إبن مساحق.
قال نوفل: قدمت البادية فسألت عنه فقيل لي توحش وما لنا به عهد ولا ندري إلى أين صار. فخرجت يوماً أتصيد الأروى ومعي جماعة من أصحابي حتى إذا كنت بناحية الحمى إذا نحن بأراكة عظيمة قد بدا منها قطيع من الظباء فيها شخص إنسانُ يرى من خلل تلك الأريكة، فعجب أصحابي من ذلك، فعرفته وأتيته وعرفت أنه المجنون الذي أخبرت عنه، فنزلت عن دابتي وتخففت من ثيابي وخرجت أمشي رويداً حتى أتيت الأراكة فأرتقيت حتى صرت على أعلاها وأشرفت عليه وعلى الظباء فإذا به وقد تدلى الشعر على وجهه فلم أكد أعرفه إلا بتأمل شديد وهو يرتعي في ثمر تلك الأراكة، فرفع رأسه فتمثلت ببيت من شعره:
أتبكي على ليلى ونفسك باعدت ... مزارك من ليلى وشعبا كما معا
قال: فنفرت الظباء وأندفع في باقي القصيدة ينشدها، فما أنسى نغمته وحسن صوته وهو يقول:
فما حسن أن تأتي الأمر طائعاً ... وتجزع إن داعي الصبابة إسمعا
بكت عيني اليسرى فلما زجرتها ... عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا
وأذكر أيام الحمى ثم أنثني ... على كبدي من خشية أن تصدعا
فليست عشيات الحمى برولجع ... عليك ولكن خل عينيك تدمعا