فمضيت معها حتى دخلت داراً واسعة ثم صرت إلى بيت فيه حصير وقد ثنت لي وسادة جلست عليها، ثم جاءت جارية بوسادة مثنية فطرحتها، ثم جاءت المرأة فجلست عليها فقالت لي: أنت المجيب، قلت نعم، قالت: ما كان أفظ جوابك وأغلظه، فقلت لها: ما حضرني غيره، فسكتت ثم قالت: لا والله، ما خلق الله خلقاً أحب إليّ من إنسان كان معك، فقلت لها: أنا الضامن لك عنه ما تحبين، فقالت: هيهات أن يقع بذلك وفاء، فقلت: أنا الضامن وعليّ أن آتيك به في الليلة القابلة.
فأنصرفت فإذا الفتى بابي فقلت: ما جاء بك قال: ظننت أنها سترسل إليك وسألت عنك فلم أعرف لك خبراً فظننت أنك عندها فجلست أنتظرك، فقلت له: وقد كان الذي ظننت، وقد وعدتها أن آتيك فأمضي بك إليها في الليلة المقبلة.
فلما أصبحا هيأنا وانتظرنا المساء، فلما جاء الليل رحلنا إليها فإذا الجارية منتظرة لنا، فمضت أمامنا حين رأتنا حتى دخلت تلك الدار ودخلنا معها فإذا رائحة طيبة ومجلس قد أعد ونضد فجلسنا على وسائد قد ثنيت وجلست ملياً، ثم أقبلت عليه فعاتبته ملياً ثم قالت:
وأنت الذي أخبرتني ما وعدتني ... وأشمت بي من كان فيك يلوم
وابرزتني للناس ثم تركتني ... لهم غرضاً أرمى وأنت سليم
فلو كان قولٌ يكلم الجلد قد بدا ... بجلدي من قول الوشاة كلوم
هذه الأبيات لآمنة امرأة إبن الدمينة وفيها غناء لإبراهيم الموصلي ذكره إسحق ولم يجنسه. وقال الهشامي هو خفيف رمل وفيه لعريب خفيف ثقيل أول ينسب إلى حكم الوادي وإلى يعقوب. قال: ثم سكنت وسكت الفتى هنيهة ثم قال:
غدرت ولم أغدر وخنت ولم أخن ... وفي بعض هذا للمحب عزاء
جزيتك ضعف الود ثم صرمتني ... فحبك من قلبي إليك أداء
فالتفتت غليّ فقالت: ألا تسمع ما يقول قد خبرتك، فغمرته إن كف فكف، ثم أقبلت عليه وقالت:
نجاهلت وصلي حين جدت عمايتي ... فهلا صرمت الحبل إذ أنا أبصر
ولي من قوى الحبل الذي قد قطعته ... نصيب وإذ رأيي جميع موقر
ولكنما آذنت بالصرم بغتة ... ولست على مثل الذي جئت أقدر
فقال:
لقد جعلت نفسي وأنت إجترمته ... وكنت أعز الناس عنك تطيب
قال: فبكت ثم قالت: أو قد طابت نفسك لا والله ما فيك بعدها خير. ثم إلتفتت إليّ وقالت: قد علمت أنك لا تفي بضمانك ولا يفي به عنك.
وهذا البيت الأخير للمجنون وإنما ذكر هذا الخبر هنا وليس من أخبار المجنون لذكره فيه.
وقيل إن هذا الشعر للمجنون:
كأن القلب ليلة قيل يغدى ... بليلى العامرية أو يراح
قطاة غرَّها فباتت ... تجاذبه وقد علق الجناح
الغناء ليحيى المكي خفيف ثقسل بالوسطى عن عمرو وفيه رمل ينسب إلى إبراهيم وإلى أحمد بن المكي، وقال حبش فيه خفيف ثقيل لسليم.
وقال الهيثم بن عدي في خبره: حدثني عبد الله بن عياش الهمداني قال: حدثني رجل من بني عامر قال: مطرنا مطراً شديداً في ربيع إرتبعناه ودام ثلاثاً ثم أصبحنا في اليوم الرابع على صحو وخرج الناس يمشون على الوادي فرأيت رجلاً جالساً حجرة وحده فقصدته فإذا هو المجنون جالس وحده يبكي، فوعظته وكلمته طويلاً وهو ساكت لم يرفع رأسه إليّ.
ثم أنشدني بصوت حزين لا أنساه ابداً وحرقته:
جرى الدمع فأستبكاني السيل إذ حرى ... وفاضت له من مقلتيَّ غروب
وما ذاك إلا حين أيقنت أنه ... يكون بوادٍ أنت فيه قريب
يكون أجاجاً دونكم فإذا أنتهى ... إليكم نلتقي طيبكم فيطيب
أظل غريب الدار في أرض عامرٍ ... ألا كل مهجور هناك غريب
وإن الكثيب الفرد من أيمن الحمى ... إليّ وإن لم آتة لحبيب
فلا خير في الدنيا إذا أنت لم تزر ... حبيباً ولم يطرب إليك حبيب
وأول هذه القصيدة وفيه غناء:
ألا أيها البيت الذي لا أزوره ... وهجرانه مني إليه ذنوب
هجرتك مشتاقاً وزرتك خائفاً ... وفيّ عليك الدهر منك رقيب