وعظتكَ أجداثٌ صمتْ ... ونعتكَ ساكتةٌ خفتْ
وتكلمتْ عن أعظمٍ ... تبلى، وعن صورٍ سبتْ
وأرتك قبرك في القبور ... رِ، وأنتَ حيٌ لم تمتْ
والدهرُ كم من غيرةٍ ... لكَ في نوائبهِ الثبتْ
غيرٌ مقلعةٌ لأو ... تادٍ وأطنابٍ ثبتْ
لا تغفلنَّ، فأنهُ ... من تمضِ ساعتهُ تفتْ
ولربما انتقلَ الشما ... تُ، فحلَّ بالقومِ الشمتْ
وهذه أبيات ما وجد لمحدث مثلها.
وله ايضاً:
لكم من رجاءٍ، ومن شدةٍ ... إلى غايةٍ، وإلى مدةِ
وكم عقدَ الدهرُ من عقدةٍ ... فرقتْ، وكم حلَّ من عقدةِ
على سرعةِ الشمسِ في سيرها ... دبيبُ الخلوقة في الجدةِ
وأنشدهم أيضاً:
يا عجبي للبلى وجدتهِ ... يدبُ في الخلقِ ساكناً حركا
ثم انصرفوا، ولم يستنشد مسلماً، ولا أبا نواس شيئاً، فعادوا إليه بعد أيام، فاستنشد مسلماً، فأنشده قصيدته التي منها:
أجررتُ حبلَ خليعٍ في الصبا، غزلِ
حتى إذا بلغ إلى قوله:
ينالُ بالرفقِ ما تعيا الرجال له ... كالموتِ مستعجلاً يأتي على مهلِ
قال له أبو عمرو: أحسنت يا أبا الوليد، إلا أنك أخذت قول أبي إسحاق، حيث يقول:
وحكتْ لكَ الساعاتُ سا ... عاتٍ أتياتٍ بغتُ
ثم استنشد أبا نواس، فأنشده:
يا شقيقَ النفسِ من حكمِ
حتى بلغ إلى قوله:
فتمشتْ في مفاصلهم ... كتمشي البرءِ في السقمِ
قال له أبو عمرو: احسنت يا ابا علي، غلا أنك أخذت معنى قول أبي إسحاق:
على سرعةِ الشمسِ في مرها ... دبيبُ الخلوقةِ في الجدةِ
ولأبي عتاهية:
كلٌّ على الدنيا له حرصُ ... والحادثاتُ أناتها غفصُ
وكأنَّ منْ واروهُ في جدثٍ ... لم يبدُ منه لناظرٍ شخصُ
ليدِ المنيةِ في تلمسها ... عن ذخرِ كلِّ شقيقةٍ فحصُ
نبغي من الدنيا زيادتها ... وزيادةُ الدنيا هي النقصُ
وأخذ هذا المعنى مؤلف هذا الكتاب فقال:
زيادةُ عمر المرءِ نقصُ حياتهِ ... فكيفَ غدتْ تلك الزيادةُ نقصانا
وللمتنبي:
لا يكثرُ الأمواتُ كثرةَ قلةٍ ... إلا إذا شقيتْ بكَ الأحياءُ
وأما قول أبي عتاهية:
لم يبدُ منه لناظرٍ شخصُ
فمأخوذ من قول الأول:
وكأنَّ أقواماً مضوا لم يخلقوا
وأما قوله:
ليد المنيةِ في تلمسها ... عن ذخرِ كلِّ شقيقةٍ فحصُ
وقوله:
نبغي من الدنيا زيادتها ... وزيادةُ الدنيا هي النقصُ
فقد تردد هذا في كثير من شعره. فمن ذلك:
إذا ازددتُ من عمري قربتُ من البلى ... وألفيتُ نقصي بيناً في زيادتي
وقوله:
وكلُّ زيادةٍ فليومِ نقصٍ ... وكلُّ جماعةٍ فليومِ بينِ
وقوله:
وأسرعَ في نقضه امرئٍ تمامهُ ... يا لكَ أمراً نقصهُ إبرامهُ
وقوله:
وأسرع ما يكونُ المرءُ نقصاً ... وأقربُ ما يكونُ من الزيادةُ
ومعانيه قريبة بعضها من بعض. وللنمر بن تولب مما يلم بهذا المعنى قوله:
يحبُّ الفتى طولَ السلامةِ جاهداً ... فكيف ترى طول السلامةِ يفعلُ
ويروى عن النبي، صلى الله عليه وسلم: " كفى بالسلامة داء ".
وقال حميد بن ثور:
أرى بصري قد رابني بعدَ صحةٍ ... وحسبكَ داءً أن تصحَّ وتسلما
وهذا من كلام الحكماء. قال بعض الحكماء، وقد سئل كيف أنت، فقال: كيف حال من يفنى ببقائه، ويسقم بصحته، ويؤتى من مأمنه. وقال بعض الشعراء:
وما ازدادَ شيءٌ قطُّ إلاّ لنقصهِ ... وما اجتمعَ الالفانِ إلا تفرقا
وقال آخر:
كانتْ قناتي لا تلينُ لغامزٍ ... فألانها الاصباحُ والإمساءُ
ودعوتُ ربي بالسلامةِ جاهداً ... ليصحني، فإذا السلامةُ داءُ
وقال آخر:
يحبُّ الفتى طولَ البقاءِ، وإنهُ ... على ثقةٍ أنَّ البقاءَ فناءُ
زيادتهُ في الجسمِ نقصُ حياتهِ ... ليس عى طولِ البقاءِ بقاءُ
ولأبي عتاهية في الشيب ما قد أكثر فيه، فمن ذلك:
إنما الشيبُ لابنِ آدمَ ناعٍ ... قامَ في عارضيهِ، ثمَّ نهاهُ
وهذا المعنى قس اتسع فيه الشعر، وقالته الخطباء والوعاظ. وقد قال عدي بن زيد: