ومنْ جعلَ الظلامَ له قعوداً ... أصابَ يدَ الدجى خيراً وشرا
وكان عبد الله هذا كثير الذم لسر من رأى، ومنه قوله:
لعنَ الله سرَّ منْ را بلاداً ... ورماها بالقحطِ والطاعونِ
بعتُ في الصيفِ عندهم قبة الخي ... شِ، وبعتُ الكانونَ في كانونِ
ومنه قوله:
لعمركَ ما سررتُ بسرّ من را ... ولكني عدمتُ بها السرورا
رأيتُ بها القصورَ مشيداتٍ ... على قومٍ يشينونَ القصورا
إذا قيل: البسوا، لبسوا المخازي ... وإنْ قيل: اركبوا، ركبوا الأيورا
وكتب الحسن بن وهب إلى مالك بن طوق لأجله كتابا، وهو: كتابي إليك كتاب خططته بيدي، وفرغت له دهني، فما ظنك بحاجة هذا موقعها مني؟ أتراني أقصر في الشكر عليها، أم أقبل العذر فيها. وابن أبي الشيص ممن عرفت حاله وخالص مودته، وصفاء سريرته. ولو كانت الدنيا تنبسط بيده ما عدانا إلى غيره. فاكتف بهذا مني فيه وله، والسلام.
وكتب إلى بعض إخوانه:
رداؤكَ في الحربِ العوانِ هو الردى ... ورأيكَ في داجي الخطوبِ هو الفجرُ
ولو أنَّ للأوعارِ والسهلِ ألسناً ... لأثنى عليكَ السهلُ بالجودِ، والوعرُ
أسلكَ بحقِّ الراحِ والرشأ الذي ... له في حواشي طرفهِ، أبداً، سحرُ
ترى منكَ ماءَ الوجهِ في ماءَ وجههِ ... وللعينِ في ديباجِ بهجتهِ زهرُ
فانَّ له حقاً على كلِّ ذي هوىً ... وللكأسِ أجرٌ حقهُ، أبداً، وزرُ
بحقيهما ألا قبلتَ مموهاً ... من العذرِ يهديهِ امرؤٌ ماله عذرُ
فإنْ يكُ غداراً فمن آلِ دعبلٍ ... فإنهمُ قومٌ، وفاؤهمُ غدرُ
إذا عاهدوا فالنكثُ بحتُ عهودهم ... وإنْ وصلواخلاً، فوصلهمُ هجرُ
سأكفيكَ يا ابن المجدِ ذمي، ولم تكنْ ... لتبلغَ من ذمي الذي بلغَ الشعرُ
أبو سويد عبد القوي بن محمد بن أبي عتاهية، واسمه إسماعيل بن القاسم بن سويد، وبلده الكوفة.
كان من أكثر المحدثين شعراً، واسهلهم في المعاني والألفاظ، وأبعدهم عن التكلف. وقال ابن الأعرابي: إن أبا عتاهية وبشاراً أجود المحدثين شعراً، وأبعدهم من التكلف. وقيل لربة بن العجاج: من أشعر المحدثين؟ قال: الذي إذا جد جد، وإذا هزل هزل، كأنما يتناول الكلام من كمه. يعني ابا عتاهية. وقال مسعود بن بشر الأزدي.: قلت بمكة لابن مناذر: من أشعر الناس؟ قال: من إذا شبب لعب، وإذا جد جد. قلت: مثل من؟ قال: مثل جرير حيث يقول:
إنَّ الذين غدوا بقلبكَ غادروا ... وشلاً بعينكَ لا يزالُ معينا
غيضنَ من عبراتهنَّ، وقلنَ لي ... ماذا لقيتَ من الهوى، ولقينا
ثم قال حين جد:
إن الذي حرمَ الخلافةَ تغلباً ... جعلَ الخلافةَ والنبوةَ فينا
هذا ابنُ عمي في دمشقَ خليفةٌ ... لو شئتُ ساقكمُ إلي قطينا
فيروى عن الوليد أنه قال: لو قال جرير: لو شاء لفعلت، ولكن جعلني شرطياً له. ثم قال ابن الأعرابي: ومن هؤلاء المحدثين هذا الخبيث، الذي يتناول الشعر من كثب، يعني ابا عتاهية، حيث يقول:
الله بيني وبين مولاتي ... أبدتْ ليَ الصدَّ والملالاتِِ
ثم يخرج من الغزل فيجد ويقول:
ومهمهٍ، قد قطعتُ، طامسةٍ ... قفرٍ على الهولِ والمخافاتِ
بحرةٍ، جسرةٍ، عذافرةٍ ... خوصاءَ عيرانةٍ علنداةِ
تقولُ للريح كلما بسمتْ ... هل لك يا ريحُ في مباراتي
وبهذا الشعر قال ابن العجاج ما قال، لأنه كان أنشده إياه، فقال: ما كنت أظن أنه يكون بحضرتي مثل طبعك.
وسمعه أبو نواس ينشد بحضرة قوم، فقال: أفجر هذا، أم أنتم لا تبصرون. وبطريق هذه التائية تاب عن الشعر، وذلك أنه رأى في منامه كأن شخصاً يقول له: ما كان في الدنيا احد يكون بينك وبين مولاتك وحبيبتك إلا الله تعالى، حتى تقول: بيني وبين مولاتي. فصار يميل في أشعاره إلى الزهديات.
وكان أبو عمرو الشيباني يفضله. وقد ذكر محمد بن يزيد في كتاب الروضة من أخبار أبي عتاهية جملاً، فلم آت في هذا بشيء مما ذكره، ذلك إلا القليل، قصداً للفائدة. حدث أبو عمرو الشيباني قال: جاء أبو عتاهية، ومسلم بن الوليد، وأبو نواس إلى أبي، فاستنشد أبا عتاهية، فأنشده قوله: