أَصْحَابُهُ بَعْدَهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: وَعَلَى هَذَا اسْتَمَرَّ مَنْ لَا يُحْصَى مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ - الْفَصْلَ إلَى آخِرِهِ - فَلَوْ ذَكَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا وَسَكَتَ لَكَانَ يَخْطُرُ لِلسَّامِعِ الَّذِي لَمْ يُحَصِّلُ بَعْدُ شَيْئًا أَنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ السُّنَّةُ، وَلَكِنَّهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى ذَلِكَ بَلْ أَتَى بِذِكْرِ الْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ وَالْفُقَهَاءِ وَذِكْرِ مَذَاهِبِهِمْ وَاسْتِنَادِهِمْ إلَى مَا ذَكَرَ وَعَيَّنَ ذَلِكَ عَنْهُمْ وَبَسَطَ وَظَهَّرَ الْأَمْرَ لِلْعَالِمِ وَغَيْرِهِ.
ثُمَّ ذَكَرَ أَوَّلًا الْحَدِيثَ الْمُتَّفَقَ عَلَى صِحَّتِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «قُومُوا إلَى خَيْرِكُمْ أَوْ إلَى سَيِّدِكُمْ» فَهَذَا الْحَدِيثُ لَا يُنَازَعُ فِي صِحَّتِهِ، وَهُوَ بَيِّنٌ فِي الْقِيَامِ كَمَا ذَكَرَ.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَصَّ فِي الْحَدِيثِ الْأَمْرَ بِالْقِيَامِ لِلْأَنْصَارِ، وَالْأَصْلُ فِي أَفْعَالِ الْقُرْبِ الْعُمُومُ، وَلَا يُعْرَفُ فِي الشَّرْعِ قُرْبَةٌ تَخُصُّ بَعْضَ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ إلَّا أَنْ تَكُونَ قَرِينَةً تَخُصُّ بَعْضَهُمْ فَتَعُمُّ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مَشْهُورٌ. فَلَوْ كَانَ أَمْرُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَهُمْ بِالْقِيَامِ مِنْ طَرِيقِ الْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ لَكَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَوَّلَ مَنْ يُبَادِرُ إلَى مَا نَدَبَ إلَيْهِ، وَهُوَ الْمُخَاطَبُ خُصُوصًا بِخَفْضِ الْجَنَاحِ وَأُمَّتُهُ عُمُومًا فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَلَا أَمَرَ بِذَلِكَ الْمُهَاجِرِينَ، وَلَا فَعَلُوهُ بَعْدَ أَمْرِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِلْأَنْصَارِ، بِذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْقِيَامَ لِلْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ إذْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَاشْتَرَكَ الْجَمِيعُ فِي الْأَمْرِ بِهِ وَفِي فِعْلِهِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيُحْمَلُ أَمْرُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالْقِيَامِ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الضَّرُورَاتِ الْمُحْوِجَاتِ لِذَلِكَ وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي قِصَّةِ الْحَدِيثِ وَبِسَاطِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ «بَنِي قُرَيْظَةَ كَانُوا نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَانَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ إذْ ذَاكَ خَلَّفَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَدِينَةِ فِي الْمَسْجِدِ مُثْقَلًا بِالْجِرَاحِ لَمْ يَمْلِكْ نَفْسَهُ أَنْ يَخْرُجَ وَتَرَكَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَجُوزًا تَخْدُمُهُ، فَلَمَّا أَنْ نَزَلَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ عَلَى حُكْمِهِ أَرْسَلَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَلْفَهُ فَأُتِيَ بِهِ عَلَى دَابَّةٍ وَهُمْ يُمْسِكُونَهُ يَمِينًا