المازني والمبرد والزجاج، بينما أغلق الكوفيون الذين خلفوهما هذا الباب، بل لقد مضوا يتوسعون في الاحتجاج بالقراءات الشاذة مقتدين بالأخفش. ولعل في ذلك ما يسقط التهمة التي اتهم بها بعض المعاصرين نحاة البصرة عامة، إذ زعموا أنهم كانوا يطعنون على القراءات، كما زعموا أن الكوفيين عامة كانوا يقبلونها ويحتجون بها. وسنرى أن الفراء الكوفي هو الذي بدأ بقوة تخطئة القراء. وينبغي أن نعرف أن حروفا معدودة هي التي وقف عندها الكسائي والفراء ومن تلاهما من البصريين بحيث يكون من الإسراف أن يقال: إنهم كانوا يخطِّئون القراء، إنما الذي ينبغي أن يقال: إنهم وقفوا عند بعض حروف في قراءات القرآن الكريم، رغبة منهم في التحري الدقيق للفظ الذكر الحكيم ونطقه.
على كل حال ليس الفراء بصريا ولا بغداديا، إنما هو كوفي، بل إن المدرسة الكوفية في النحو لم يتم تشكلها إلا به وبآرائه ومقاييسه وما اعتمده من تفسير لبعض الظواهر اللغوية وما وضعه من مصطلحات نحوية خالف بها مصطلحات البصريين، مما يجعله الإمام الحقيقي لهذه المدرسة. وحقا سبقه فيها أستاذه الكسائي، ولكن لم يكن له دقة عقله وغور ذهنه، بحيث يرسي قواعد المدرسة ويرفع أركانها. وإذا أخذنا نحقق هذه القواعد والأركان وجدنا ثلاثة طوابع كبيرة تشيع فيها هي: طابع الاتساع في الرواية، بحيث تفتح جميع الدروب والمسالك للأشعار واللغات الشاذة، وطابع الاتساع في القياس بحيث يقاس على الشاذ والنادر دون تقيد بندرته وشذوذه، ثم طابع المخالفة في بعض المصطلحات النحوية وما يتصل بها من العوامل.
وينبغي أن يستقر في الأذهان أن المدرسة الكوفية لا تباين المدرسة البصرية في الأركان العامة للنحو، فقد بنت نحوها على ما أحكمته البصرة من تلك الأركان، التي ظلت إلى اليوم راسخة في النحو العربي، غير أنها مع اعتمادها لتلك الأركان استطاعت أن تشق لنفسها مذهبا نحويا جديدا، له طوابعه وله أسسه ومبادئه.
وإذن فمن الخطأ أن يرى معاصرٌ الكسائيَّ أو الفراء يتأثر بالنحو البصري، فيظن أنهما ليسا كوفيين وأنهما مقدمة المذهب البغدادي أو المدرسة البغدادية، فإن هذا التأثر عندهما وعند جميع أئمة الكوفة شيء طبيعي، ومعروف أن