للعصر المملوكي، إلا أن المديح النبوي قد اتسع ورسخ واتضحت معالمه في العصر المملوكي، وأضحت له تقاليده وأصوله، وظهر الشعراء الذين اشتهروا به وأجادوه، فشغلت المدائح النبوية قدرا كبيرا من دواوين الشعراء، ثم استقلت بدواوين خاصة بها.
إن السيرورة التي رزقها فن المدائح النبوية، لم تتهيأ في العصر المملوكي لفن شعريّ آخر، فنكاد لا نجد شاعرا من هذا العصر لم تكن له مشاركة في هذا الفن الشعري، وبلغ من الانتشار والكثرة والاتساع حدا استعصى معه على الحصر، وأي نظرة على فهرس مخطوطات أية مكتبة تثبت ذلك، وتجعل المرء في عجب من مشاركة معظم الشعراء في هذا الفن، فكيف تهيأت لهم المشاركة بعد أن أفنى غيرهم أعمارهم في نظمه والتفنن فيه؟.
وتميز قدر كبير من المدائح النبوية بطول لم نعهده في الشعر العربي، فتجاوز عدد أبياتها المئين، وذكرت قصائد مفرطة في الطول، يكاد المرء لا يصدق أن قصيدة عربية بلغت هذا العدد من الأبيات.
ومما يدل على احتفال الشعراء بفن المديح النبوي، إطلاق أسماء مختلفة على القصائد النبوية، فهذه (البردة) ، وتلك (نهج البردة) ، وهذه اسمها (تفصيل البردة) ، وتلك (أمان الخائف) ، وأخرى اسمها (ذخر المعاد على وزن بانت سعاد) ، فقصائد البوصيري وعائشة الباعونية مثلا، كلها لها أسماء، واحدة اسمها (الغرر في مدح سيد البشر) ، وأخرى اسمها (الفتح المبين) ، وثالثة (فتوح الحق) ، وهكذا ...
فما السبب وراء هذا الاتساع الكبير في فن المدائح النبوية؟ وما دواعي الإكثار منه؟
وما الغاية المتوخاة من وراء هذه الكثرة الكاثرة من المدائح؟.
إن إمعان النظر في جوانب العصر المملوكي المختلفة، وفي المدائح التي قيلت فيه، يقودنا إلى بعض الأسباب الظاهرة التي دفعت الشعراء إلى الاتساع في نظم المدائح النبوية، نستطيع إرجاعها إلى أسباب سياسية وأسباب اجتماعية، وأسباب دينية، إضافة إلى الانسياق وراء التوجه العام والتقليد.