مراكب مقبية بالخشب الملبس جلود الجواميس، وكانوا يرموننا بالنشاب والجروخ، وكان القتال من قدامنا من جهة المدينة، ومن جهة يميننا من البحر، وأحضروا بطسة فيها منجنيق يرمي علينا، وعلى خيمنا من جهة البحر، فكنا منه في شدة، حتى اتفق في بعض الليالي هبوب رياح قوية، فارتفع المركب وانحط بسبب الموج، وانكسر المنجنيق الذي فيه، بحيث أنه انحطم، ولم ينصب بعد ذلك.
وخرج الفرنج في أثناء مدة الحصار بالليل، وكبسوا العسكر، وهزموا اليزكية، واتصلوا إلى الخيام، وتعلقوا بالأطناب، ووقع منهم فارس في جورة مستراح بعض الأمراء فقتل هناك، وتكاثرت عليهم العساكر فولى الفرنج منهزمين إلى البلد، وقتل عسكر حماة عدة منهم، فلما أصبح الصباح، علق الملك المظفر صاحب حماة، عدة من رؤوس الفرنج في رقاب خيلهم التي كسبها العسكر منهم، وأحضر ذلك إلى السلطان الملك الأشرف، واشتدت مضايقة العسكر لعكا حتى فتحها الله تعالى لهم، في يوم المجمعة السابع عشر من جمادى الآخرة بالسيف، ولما هجمها المسلمون، هرب جماعة من أهلها في المراكب، وكان في داخل البلد عدة أبرجة عاصية، بمنزلة قلاع، دخلها عالم عظيم من الفرنج وتحصنوا بها، وقتل المسلمون وغنموا من عكا شيئاً يفوت الحصر من كثرته، ثم استنزل السلطان جميع من عصى بالأبرجة، ولم يتأخر منهم أحد، فأمر بهم فضربت أعناقهم عن آخرهم حول عكا، ثم أمر بمدينة عكا فهدمت إلى الأرض، ودكت دكاً، ومن عجائب الاتفاق. أن الفرنج استولوا على عكا وأخذوها من صلاح الدين، ظهر يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة، سنة سبع وثمانين وخمسمائة، واستولوا على من بها من المسلمين، ثم قتلوهم، فقدر الله عز وجل في سابق علمه، أنها تفتح في هذه السنة في يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة على يد السلطان الملك الأشرف صلاح الدين، فكان فتوحها مثل اليوم الذي ملكها الفرنج فيه، وكذلك لقب السلطانين.
لما فتحت عكا، ألقى الله تعالى الرعب في قلوب الفرنج الذين بساحل الشام، فأخلوا صيدا وبيروت، وتسلمها الشجاعي في أواخر رجب، وكذلك هرب أهل مدينة صور، فأرسل السلطان وتسلمها، ثم تسلم عثليث في مستهل شعبان، ثم تسلم أنطرطرس في خامس شعبان. جميع ذلك في هذه السنة، أعني سنة تسعين وستمائة. واتفق لهذا السلطان من السعادة، ما لم يتفق لغيره، من فتح هذه البلاد العظيمة، الحصينة، بغير قتال ولا تعب، وأمر بها فخربت عن آخرها، وتكاملت بهذه الفتوحات، جميع البلاد الساحلية الإسلامية، وكان أمراً لا يطمع فيه ولا يرام، وتطهر الشام والسواحل من الفرنج، بعد أن كانوا قد أشرفوا على أخذ الديار المصرية، وعلى ملك دمشق، وغيرها من الشام، فلله الحمد والمنة على ذلك، ولما تكاملت هذه