رُوي عن محمد بن حاطب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: فصل ما بين الحلال والحرام الصوت وضرب الدف. وعن عائشة قالت: دخل أبو بكر رضي الله عنه وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث، فقال أبو بكر: بمزمور الشيطان في بيت رسول الله وذلك يوم عيد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر إن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا. وعن الشعبي قال: مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحاب الدنكله وهم يلعبون فقال: خذوا يا بني أرفدة حتّى تعلم اليهود والنصارى أن في ديننا فسحة. فأخذوا يلعبون ويقولون: أبو القسم الطيب أبو القاسم الطيب. فجاء عمر فلما رأوه تذاعروا. وعن عكرمة قال: ختن عبد الله بن عباس بنيه فأمرني فاستأجرت له لعابين بأربعة دراهم.
وقال اسحق: سأل الرشيد إبراهيم بن سعد الزهري عن من بالمدينة يطلب تحريم الغناء. فقال: من قنَّعه الله بخزيه. فقال: بلى مالك بن أنس فقال شهادتي عليه أنه سمع في عرس مالكاً ابن حنظلة يغني:
سليمى أجمعت بينا ... فأين تقوله أينا
وعن عطاء قال: لا بأس بالغناء والحداء للمحرم. وذكر الغنا فشدد فيه عمرو ابن عبيد ورخص فيه بن جريج. فقال عمرو: إن الله يقول: ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد. فأخبرني من يكتبه أصاحب اليمين أم صاحب الشمال. قال ابن جريج لا يكتبه واحد منهما لأنه لغو ليس بحسنة فيكتبها صاحب اليمين ولا بسيئة فيكتبها صاحب الشمال.
والرخص في الغناء كثيرة ولولا مخافة التطويل لا تيت على ذلك. ومعرفة الأغاني أحد الفلسفة الأربعة وهي حدود المنطق ومعرفة الطب وعلم النجوم والموسيقى وهو الألحان. وكانت الأوائل تعظم هذا الشأن. فدخل على الإسكندر رجل موسيقي فأظهر إكرامه. فقال له جلساؤه: كيف أكرمت هذا هذه الكرامة. فقال: ليس الرجل أكرمت ولكن الموسيقية أكرمت. وقال الإسكندر: من فهم اللحون استغنا عن سائر اللذات. وقالت الفلاسفة: إن النغم والأغاني فضيلة شريفة كانت خفيت على المنطق ليست في قدرته فلم يقوَ على إخراجها. فأخرجتها النفس ألحاناً.
فلما ظهرت سرت بها وعشقتها وطربت لها.. وقالت الحكماء: الموسيقي يدرّج أبناء الفلاسفة ويسوقهم إلى سائر العلوم لأن باطنه لهو العقول وظاهره لهو الحواس.
وجعل الله كل حاسة تتعب بحركتها غير السمع، فإنه خصّه الله بورود الصوت عليه من غير حركة ولا مؤونة. فألوم الأمور للنفس سماع النغم الحسان الممازج لأوتار العيدان.
فضل الغناء على المنطق كفضل المنطق على الخرس، والبرؤ على السقم، والدينار على الدرهم. وفضل العود على جميع الملاهي كفضل الإنسان المميز على سائر الحيوان. وأول من اتخذ العود لمك بن متوشيل بن محويل بن عبرد بن أخنوخ بن قينان بن آدم.
كان له ابناً كذا يحبه حباً شديداً فمات. فعلّقه بشجرة وقال: انظر إليه أبداً فتقطعت أوصاله حتى بقي منه فخذه والساق والقدم والأصابع. فأخذ خشباً فرقّقه وألزقه فجعل صورة العود كالفخذ وعنقه كالساق والبنجك كالقدم والملاوي كالأصابع والأوتار كالعروق. ثم ضرب به وناح عليه فنطق العود. قال الحمدوي:
وناطقٍ بلسان لا ضميرَ له ... كأنَّه فخذ نيطت إلى قدم
يُبدي ضمير سواه في الحديث ... يُبدي ضمير سواه منطق القلم
وعمل توبل ابن لمك الطبول والدففة. وعملت صلا ابنة لمك المعازف. ثم عمل قوم لوط الطنابير يستميلون بها الغلمان. ثم اتخذ الرعا والأكراد أنواعاً مما يصفّر به. كانت أغنامهم إذا تفرقت صفروا لها فاجتمعت.
ثم سوّت الفلاسفة العود. قال فيذرس الرومي: جُعلت الأوتار الأربعة بازاء الطبائع الأربعة. فجعل الزير بازاء المرّة الصفراء والمثنى بازاء الدم والمثلث بازاء البلغم والبمّ بازاء السوداء. فالزير للخنصر والمثنى للبنصر ووزنه ضعف وزن الزير والمثلث للوسطى ووزنه ضعفا وزن الزير والبم للسبابة ووزنه ثلاثة أضعاف وزن الزير. واتخذت الفرس الناي للعود والزنامي للطنبور والسرناي للطبل والمتج للصنج. وكان غناء الفرس بالعيدان والصنوج وهي لهم ولهم النغم والإيقاعات والمقاطع والكروف وهي ثمانية. بندستان ثم بهار وهو أفصحها ثم إبرين وهو أكثرها استعمالاً لسفلى