والعبرة في هذا الباب للمساكنة إلا في حق الزوجة والولد الصغير، للمعنى الذي ذكرنا في المسألة المتقدمة؛ لا للنفقة؛ ألا ترى أنه إذا دفع الوديعة إلى ابنه الكبير الذي يسكن معه، ويترك المنزل عليه، فإنه لا يضمن، وإن لم يكن الابن في نفقته.f
ولو كان له امرأتان، ولكل واحدة منهما ابن من غيره يسكن معها، فهما في عياله لا يضمن بدفع الوديعة إلى ابنيهما، وإذا دفع الوديعة إلى من ليس في عياله؛ إن كان الدفع لضرورة بأن احترق بيت المودع فأخرجها من بيته، ودفعها إلى جاره، فلا ضمان عليه في هذا، وما يشبه هذا استحساناً.
وذكر شمس الأئمة الحلواني في شرح كتاب الصلح: إذا وقع في بيت المودع حريق، فإن أمكنه أن يناولها من في عياله، فناولها أحنبياً ضمن، وإن كان لا يجد بداً من الدفع إلى الأجنبي لا يضمن.
وذكر شيخ الإسلام في شرح كتاب الصلح أيضاً: الحريق إذا كان غالباً، وقد أحاط منزل المودع إذا تناول الوديعة جاز أنه لا يضمن استحساناً، وإن لم يكن أحاط بمنزل المودع ضمن هذا إذا كان الدفع لضرورة، وإن كان الدفع لغير ضرورة، فهلك في يد الثاني؛ إن هلك قبل أن يفارق الأول الثاني، فلا ضمان على أحد بلا خلاف، وإن هلك بعدما فارقه الأول، فالأول يضمن بلا خلاف، وأما الثاني ففيه خلاف على قولهما، وعلى قول أبي حنيفة لا يضمن؛ لأن بهذا الدفع صار المال أمانة في يد الثاني؛ لأن للأول أن يحفظ الوديعة بيد الثاني بحضرته، ولهذا لو هلكت في يد الثاني قبل أن يفارقه الأول؛ لا ضمان على واحد منهما، فهو معنى قولنا: إن المال حصل أمانة في يد الثاني، والأمانة لا تضمن بدون التعدي، ولم يوجد من الثاني التعدي، إنما وجد من الأول حيث فارقه.
فإن ادعى المودع الضرورة بأن ادعى أنه وقع الحريق في بيته؛ ذكر «القدوري» : أنه لا يصدق إلا ببينته في قول أبي يوسف، وهو قياس قول أبي حنيفة.
وذكر في «المنتقى» : أنه إن علم أنه قد احترق بيته قبل قوله، وإن لم يعلم لا يقبل قوله إلا ببينته، وفي «القدوري» يقول: إذا حفظ الوديعة في حرز ليس فيه ماله يضمن، والمراد منه حرز غيره؛ لأن الحرز في يد ذلك الغير، فصار الوضع في الحرز كالتسليم إلى ذلك الغير؛ أما إذا استأجر حرزاً لنفسه، وحفظ فيه لم يضمن، وإن لم يكن فيه ماله؛ لأنه بمنزلة بيته.
وسئل نجم الدين: عن خفَّافٍ خرج إلى القرى للاكتساب، فأعطاه رجل خفاً ليصلحه، فوضعه مع رحله في داره، ودخل البلدة، فسرق الخف، قال: إن كان اتخذ داراً ليسكن بأي وجه كان فلا ضمان، وإن كان وضعه في دار رجل لا يسكن هو معه في تلك الدار فهو ضامن؛ لأنه أودع الأمانة أجنبياً من غير ضرورة.
وإذا كان عند امرأة وديعة حضرتها الوفاة فدفعتها إلى جارة لها، فهلكت عندها، فإن لم يكن وقت وفاتها بحضرتها أحد من عيالها فلا ضمان؛ لأنها دفعت الوديعة إلى الأجنبية لضرورة.