يجب أن يعلم بأن معرفة جهة الكعبة إما بدليل يدل عليها أو بالتحري عند انعدام الدلالة، فمن الدلائل؛ المحاريب المنصوبة في كل موضع؛ لأن ذلك باتفاق من الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم، فإن الصحابة فتحوا العراق، وجعلوا القبلة ما بين المشرق والمغرب، ثم فتحوا خراسان، وجعلوا القبلة ما بين المغربين؛ مغرب الشتاء ومغرب الصيف، وكانوا يصلون إليها، ولما ماتوا جعلت قبورهم إليها أيضاً من غير نكير أحد منهم، وكفى بإجماعهم حجة.
ومن الدليل السؤال في كل موضع؛ لأن أهل كل موضع أعرف بقبلتهم من غيرهم عادة، ومن الدليل النجوم أيضاً على ما حكي عن عبد الله بن المبارك أنه قال: إن أهل الكوفة يجعلون الجدي خلف القفا في استقبال القبلة، ونحن نجعل الجدي خلف الأذن اليمنى، وكان الشيخ الإمام الزاهد رئيس أهل السنة إمام الهدى أبو منصور الماتريدي رحمه الله يقول: السبيل في معرفة جهة القبلة أن ينظر إلى مغرب الشمس في أطول أيام السنة فيعينه، ثم ينظر إلى مغرب الشمس في أقصر أيام السنة فيعينه ثم يدع الثلثين على يمينه والثلث على يساره، فيكون مستقبلاً للجهة إذا وجد ذلك الموضع، وعند انقطاع هذه الأدلة فإصابة جهة القبلة بالتحري.
وجملة هذا الفصل على أربعة أوجه:
أحدها: إذا صلى إلى جهة من غير شك ولا تحر ولم يخطر بباله وقت التكبير أن هذه قبلة وليست بقبلة، وفي هذا الوجه إن علم أنه أصاب أو كان أكثر رأيه ذلك يجزئه؛ لأنه لو لم يعلم أنه أصاب أو لم يصب يجزئه؛ لأن الجواز أصل فيما يفعله المسلم العاقل، فلأن يجزئه إذا علم أنه أصاب أو كان أكثر رأيه ذلك كان أولى. وإن علم أنه أخطأ لا يجزئه؛ لأن الجواز في الوجه الأول بنوع ظاهر من حيث إن الجواز أصل فيما يفعله العاقل المسلم، وهذا نوع ظاهر، والثابت بالدليل فوق الثابت بالظاهر، وكذلك إذا كان أكثر الرأي أنه أخطأ؛ لأن أكثر الرأي أقيم مقام العلم في حق العمل، وهذا كله إذا علم أنه أصاب أو أخطأ بعد الفراغ من الصلاة.
فأما إذا علم في خلال الصلاة أنه أصاب القبلة أو كان أكثر رأيه، ذكر شيخ الإسلام في «شرحه» أنه لا يجوز ويلزمه الاستقبال، وذكر شمس الأئمة السرخسي في «شرحه» : أن فيه اختلاف المشايخ، كان الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل يقول: لا يجزئه ويلزمه الاستقبال؛ لأن ما ظهر من الحالة في الانتهاء فوق الحالة الماضية؛ لأن التوجه إلى القبلة في الحالة الماضية كان ثابتاً بظاهر الحال وبعدما علم أنه أصاب أو كان أكثر رأيه ذلك فالتوجه إلى القبلة ثابت بالدليل، ولا شك أن الثابت بالدليل فوق الثابت باستصحاب الحال، فإذا كان ما ظهر من الحالة في الانتهاء فوق الحالة