وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ - وَعَنْ الشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِهِ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَأَصْحَابِهِ: أَنَّ الْعَفْوَ فِي ذَلِكَ جَائِزٌ قَبْلَ بُلُوغِ الْأَمْرِ إلَى الْإِمَامِ، وَبَعْدَ بُلُوغِهِ إلَيْهِ. وَقَالَ مَالِكٌ فِيمَنْ قَذَفَ آخَرَ فَثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدَ الْإِمَامِ فَأَرَادَ الْمَقْذُوفُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْ الْقَاذِفِ؟ قَالَ: لَا يَجُوزُ لَهُ الْعَفْوُ، إلَّا أَنْ يُرِيدَ سَتْرًا عَلَى نَفْسِهِ خَوْفَ أَنْ يَثْبُتَ عَلَيْهِ مَا رُمِيَ بِهِ، فَيَجُوزُ عَفْوُهُ حِينَئِذٍ. قَالَ مَالِكٌ: فَإِنْ أَرَادَ الْمَقْذُوفُ أَنْ يُؤَخِّرَ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى الْقَاذِفِ لَهُ أَوْ لِأَبَوَيْهِ كَانَ ذَلِكَ لَهُ، وَيَأْخُذُهُ بِهِ مَتَى أَحَبَّ، قَالَ: فَإِنْ عَفَا عَنْهُ ثُمَّ أَرَادَ أَخْذَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَخْذُهُ بِهِ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَلَمَّا اخْتَلَفُوا كَمَا ذَكَرْنَا وَجَبَ أَنْ نَنْظُرَ فِي ذَلِكَ: فَوَجَدْنَا هَذَا الِاخْتِلَافَ مَرْجِعَهُ إلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا: إمَّا أَنْ يَكُونَ الْحَدُّ فِي الْقَذْفِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، كَالْحَدِّ فِي الزِّنَا، وَالْحَدِّ فِي الْخَمْرِ، وَالْحَدِّ فِي السَّرِقَةِ، وَالْحَدِّ فِي الْمُحَارَبَةِ - وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ، كَالْقِصَاصِ فِي الْأَعْضَاءِ، وَالْجِنَايَاتِ عَلَى الْأَمْوَالِ.
فَإِنْ كَانَ الْحَدُّ فِي الْقَذْفِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى كَسَائِرِ الْحُدُودِ، فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ عَفْوٌ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ سَرَقَ مَالَ إنْسَانٍ، أَوْ زَنَى بِأَمَتِهِ وَافْتَرَى عَلَيْهِ، أَوْ بِامْرَأَةٍ أَكْرَهَهَا، وَسَرَقَ مَالًا مِنْ مَالِهَا، وَافْتَرَى عَلَيْهَا، فَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّهُ لَيْسَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَعْفُوَ عَنْ الزِّنَا بِأَمَتِهِ فَيَسْقُطُ عَنْهُ حَدُّ الزِّنَا بِذَلِكَ، وَلَا لَهُمَا أَنْ يَعْفُوَا عَمَّنْ سَرَقَ مَالَهُمَا، أَوْ قَطَعَ عَلَيْهِمَا الطَّرِيقَ، فَيَسْقُطُ عَنْهُ حَدُّ السَّرِقَةِ بِذَلِكَ، وَحَدُّ الْمُحَارَبَةِ.
وَالْمُفَرِّقُ بَيْنَ الْقَذْفِ وَبَيْنَ مَا ذَكَرْنَا: مُتَحَكِّمٌ فِي الدِّينِ بِلَا دَلِيلٍ. وَإِنْ كَانَ الْحَدُّ فِي الْقَذْفِ مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ: فَعَفْوُ النَّاسِ عَنْ حُقُوقِهِمْ جَائِزٌ: فَنَظَرْنَا فِي قَوْلِ مَالِكٍ، فَوَجَدْنَاهُ ظَاهِرَ التَّنَاقُضِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ حَدُّ الْقَذْفِ عِنْدَهُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى - فَلَا يَجُوزُ عَفْوُ الْمَقْذُوفِ - أَرَادَ سَتْرًا أَوْ لَمْ يُرِدْ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ لَهُ إسْقَاطَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى.