وَلَيْتَ شِعْرِي: عَلَى مَا يَعْهَدُ النَّاسُ أَيَكُونُ مُثْلَةً أَعْظَمَ مِنْ قَطْعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ مِنْ خِلَافٍ، وَفَقْءِ الْعَيْنَيْنِ، وَجَدْعِ الْأَنْفِ، وَالْأُذُنَيْنِ، وَبَرْدِ الْأَسْنَانِ، وَقَطْعِ الشَّفَتَيْنِ - وَهُمْ مُوَافِقُونَ لَنَا عَلَى أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ أَنْ يُفْعَلَ بِمَنْ فَعَلَهُ بِغَيْرِهِ ظَالِمًا، فَلَوْ تَرَكُوا التَّحَكُّمَ لَكَانَ أَوْلَى؟ وَلَقَدْ قَالُوا: إنَّ مَنْ قَطَعَ الطَّرِيقَ فَقُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ، فَإِنْ قَطَعَ بَعْدَ ذَلِكَ الطَّرِيقَ لَمْ تُقْطَعْ يَدُهُ الثَّانِيَةُ وَلَا رِجْلُهُ.
وَنَظُنُّ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّهُ مَنْ قَطَعَ يَدَ آخَرَ وَرِجْلَهُ: أَنَّهُ تُقْطَعُ يَدُهُ وَرِجْلُهُ فَإِنْ قَالُوا ذَلِكَ، لَاحَ تَنَاقُضُهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَقُولُوهُ زَادُوا فِي الْبَاطِلِ وَمَنْعِ الْحَقِّ.
؟ وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ: كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ الْحُدُودِ فَخَطَأٌ، وَكَلَامُ مَنْ لَمْ يَحْضُرْ تِلْكَ الْمَشَاهِدَ، وَلَا ذَكَرَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ مَنْ شَهِدَهَا: فَهُوَ لَا شَيْءَ.
وَحَدِيثُ أَنَسٍ الَّذِي مَوَّهُوا بِهِ لَمْ يُسْمَعْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَطُّ يَخْطُبُ إلَّا نَهَى عَنْ الْمُثْلَةِ أَعْظَمُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ فِي كَذِبِهِمْ أَنَّهُ نَاسِخٌ لِفِعْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِاَلَّذِينَ قَتَلُوا الرِّعَاءَ؛ لِأَنَّ أَنَسًا صَحِبَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَازَمَهُ خَادِمًا لَهُ مِنْ حِينِ قَدِمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الْمَدِينَةِ إلَى حِينِ مَوْتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَصَحَّ يَقِينًا قَطْعًا بِلَا شَكٍّ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسٌ خُطْبَتَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَنَهْيَهُ عَنْ الْمُثْلَةِ قَبْلَ فِعْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِاَلَّذِينَ قَتَلُوا الرِّعَاءَ - فَبَطَلَ ضَرُورَةً أَنْ يَكُونَ الْمُتَقَدِّمُ نَاسِخًا لِلْمُتَأَخِّرِ، وَبِاَللَّهِ إنَّ ضَرْبَ الْعُنُقِ بِالسَّيْفِ لَأَعْظَمُ مُثْلَةً - وَلَقَدْ شَاهَدْنَاهُ فَرَأَيْنَاهُ مَنْظَرًا وَحْشًا، وَكَأَنَّهُ جَسَدٌ بِأَرْبَعَةِ أَفْخَاذٍ.
فَظَهَرَ فَسَادُ احْتِجَاجِهِمْ بِالْمُثْلَةِ - وَصَحَّ أَنَّ كُلَّ مَا أَمَرَ بِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَلَيْسَ هُوَ مُثْلَةٌ، إنَّمَا الْمُثْلَةُ مِنْ فِعْلِ مَا نَهَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مُتَعَدِّيًا وَلَا مَزِيدَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ فِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى مَاتَ» فَلَا شَكَّ، وَلَا خِلَافَ، فِي أَنَّ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ كُلَّهَا هِيَ فِي قِصَّةٍ وَاحِدَةٍ، فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ، فِي إنْسَانٍ وَاحِدٍ، فَقَوْلُ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسٍ: «فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ حَتَّى مَاتَ.» وَقَوْلُ شُعْبَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ: «فَأَمَرَ بِهِ فَرُضَّ رَأْسُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ.» وَقَوْلُ هَمَّامٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ: «فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تُرَضَّ رَأْسُهُ بَيْنَ الْحِجَارَةِ:»