لَا يُدْرَى مَنْ هُوَ - ثُمَّ الْعَجَبُ كُلُّهُ مِنْ احْتِجَاجِهِمْ بِهِ، وَهُمْ مُخَالِفُونَ مَا فِيهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ: إيجَابَ الْقَوَدِ فِي الْجِرَاحِ جُمْلَةً، وَهُمْ لَا يَرَوْنَ الْقَوَدَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْجِرَاحِ إلَّا فِي الْمُوضِحَةِ وَحْدَهَا فَقَطْ، فَيَا لِلْمُسْلِمِينَ فِي أَيِّ بَابٍ يَقَعُ احْتِجَاجُ الْمَرْءِ عَلَى خَصْمِهِ بِمَا يُخَالِفُ - وَهُوَ يُصَحِّحُهُ وَخَصْمُهُ لَا يُصَحِّحُهُ -.
ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ حُجَّةً لَنَا عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ فِيهِ التَّخْيِيرَ لِلْمَجْرُوحِ، أَوْ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ بَيْنَ الْقَوَدِ، أَوْ الدِّيَةِ، أَوْ الْعَفْوِ دُونَ اشْتِرَاطِ رِضَا الْجَانِي - وَهَذَا عَجَبٌ آخَرُ، وَرِضًا بِالتَّمْوِيهِ الْمُفْتَضَحِ مِنْ قُرْبٍ - وَنَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى الْعَافِيَةَ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا - بِأَنَّ كُلَّ مَا ذَكَرْنَا فَهُوَ مَنْ قَتَلَ عَمْدًا مُسْلِمًا فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَهُوَ يَدْرِي أَنَّهُ مُسْلِمٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ، كَمَا لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَا فَرْقَ، فَلِعُمُومِ نَصِّ الْقُرْآنِ، وَالسُّنَّةِ الَّتِي أَوْرَدْنَا فِي ذَلِكَ، وَلَمْ يَخُصَّ إحْدَى الدَّارَيْنِ مِنْ الْأُخْرَى {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64] .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ، وَجَمِيعِ أَصْحَابِهِمْ - وَبِهِ نَأْخُذُ.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ: إنْ قَتَلَ مُسْلِمٌ مُسْلِمًا عَمْدًا فِي أَرْضِ الْحَرْبِ - وَكَانَ الْمَقْتُولُ غَيْرَ سَاكِنٍ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ - فَلَا قَوَدَ فِيهِ أَصْلًا، إنَّمَا فِيهِ الدِّيَةُ - فَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُ الْمَقْتُولُ سَاكِنًا فِي أَرْضِ الْحَرْبِ فَعَلَى قَاتِلِهِ عَمْدًا - وَهُوَ يَدْرِي أَنَّهُ مُسْلِمٌ - الْكَفَّارَةُ فَقَطْ، وَلَا قَوَدَ فِيهِ، وَلَا دِيَةَ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَلَا نَدْرِي مِنْ أَيْنَ أَخْرَجَ هَذَا الْقَوْلَ السَّخِيفَ، وَلَا مَنْ تَقَدَّمَهُ إلَيْهِ - وَالْعَجَبُ أَنَّ الْمُبْتَلِينَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِتَقْلِيدِهِ مَوَّهُوا فِي ذَلِكَ -: بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ أَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: «بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَصَبَّحْنَا الْحُرَقَاتِ مِنْ جُهَيْنَةَ فَأَدْرَكْتُ رَجُلًا فَقَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فَطَعَنْتُهُ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ، فَذَكَرْتُهُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَقَتَلْتَهُ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنْ السِّلَاحِ قَالَ: أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا؟ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْت أَنِّي أَسْلَمْتُ يَوْمَئِذٍ» .
وَبِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ