ثُمَّ إنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ مَاتَ زَمَنَ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَوَالِي مَكَّةَ يَوْمئِذٍ كَانَ بِلَا شَكٍّ مِنْ الصَّحَابَةِ لِقُرْبِ الْعَهْدِ، فَلَيْسَ قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ غَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ.
ثُمَّ لَمْ يَحُدَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فِي كَثِيرِ الْمَالِ مَا حَدَّهُ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَمَا نَعْلَمُ أَحَدًا سَبَقَ مَالِكًا إلَى تَحْدِيدِ ذَلِكَ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ، وَلَا مَنْ سَبَقَ الشَّافِعِيِّ إلَى تَحْدِيدِهِ بِعِشْرِينَ دِينَارًا.
فَإِنْ قِيلَ: إنَّ فِي ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ تُقْطَعُ الْيَدُ فِيهَا.
قُلْنَا: وَمَنْ حَدَّ ذَلِكَ، إنَّمَا حَدَّ قَوْمٌ بِرُبُعِ دِينَارٍ، وَأَمَّا بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ فَلَا - وَيُعَارِضُ هَذَا تَحْدِيدُ الشَّافِعِيِّ بِأَنَّ عِشْرِينَ دِينَارًا تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ، فَمِنْ أَيْنَ وَقَعَ لَهُمْ تَخْصِيصُ ذَلِكَ دُونَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ الَّتِي صَحَّ فِيهَا النَّصُّ.
أَوْ يُعَارِضُهُمْ آخَرُونَ بِمِقْدَارِ الدِّيَةِ، وَهَذَا كُلُّهُ تَخْلِيطٌ لَا مَعْنَى لَهُ.
وَيُقَالُ لَهُمْ: أَتَرَوْنَ مَا دُونَ مَا تُقْطَعُ فِيهِ الْيَدُ أَيُتَسَاهَلُ فِي ظُلْمِ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ؟ حَاشَ لِلَّهِ مِنْ هَذَا، وَقَدْ وَجَدْنَا أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ تُؤْخَذُ غَصْبًا فَلَا يَجِبُ فِيهَا قَطْعٌ، وَالْغَصْبُ وَالسَّرِقَةُ سَوَاءٌ فِي أَنَّهُمَا ظُلْمٌ، وَأَخْذُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ وَلَعَلَّ الْغَاصِبَ أَعْظَمُ إثْمًا، لِاهْتِضَامِهِ الْمُسْلِمَ عَلَانِيَةً، بَلْ لَا نَشُكُّ فِي أَنَّ غَاصِبَ دِينَارٍ أَعْظَمُ إثْمًا مِنْ سَارِقِ رُبُعِ دِينَارٍ، وَفِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ الدِّرْهَمُ عِنْدَهُ عَظِيمٌ لِفَقْرِهِ، وَفِيهِمْ مَنْ أَلْفُ دِينَارٍ عِنْدَهُ قَلِيلٌ لِيَسَارِهِ، فَظَهَرَ فَسَادُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِيَقِينٍ لَا إشْكَالَ فِيهِ - وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.