مَوْتِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُمْ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ فِيهِ قَوْلًا شَدِيدًا، ثُمَّ دَعَاهُمْ فَجَزَّأَهُمْ أَثْلَاثًا ثُمَّ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً» .
وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا: مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ، وَحَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ، وَهِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، وَيَحْيَى بْنِ عَتِيقٍ، كُلِّهِمْ: عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ كَمَا أَوْرَدْنَا.
وَسَمَاعُ ابْنِ سِيرِينَ مِنْ عِمْرَانَ صَحِيحٌ.
وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا: مِنْ طَرِيقِ عَوْفِ بْنِ أَبِي جَمِيلَةَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: فَقُلْنَا: هَذَا خَبَرٌ صَحِيحٌ لَا تَحِلُّ مُخَالَفَتُهُ إلَّا أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلْحَنَفِيِّينَ، وَلَا لِلْمَالِكِيِّينَ - وَلَا لِلشَّافِعِيِّينَ: الْحُجَّةُ بِهِ أَصْلًا، فِيمَا عَدَا الْعِتْقِ؛ لِأَنَّهُ قِيَاسٌ، وَالْقِيَاسُ بَاطِلٌ كُلُّهُ.
كَمَا لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّهُ لَا يَحِلُّ أَنْ يُقَاسَ عَلَى الْخَبَرِ الثَّابِتِ فِي التَّقْوِيمِ عَلَى مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي مَمْلُوكٍ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَدَّى بِهِ مَا جَاءَ فِيهِ مِنْ الْعِتْقِ خَاصَّةً: لَا إلَى صَدَقَةٍ، وَلَا إلَى إنْفَاقٍ، وَلَا إلَى إصْدَاقٍ، وَلَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، لَا سِيَّمَا وَالْحَنَفِيُّونَ قَدْ خَالَفُوا نَصَّهُ فِيمَا جَاءَ فِيهِ، فَكَيْفَ يَحْتَجُّونَ بِهِ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ مِنْهُ أَثَرٌ، وَهَذَا عَارٌ جِدًّا.
وَأَمَّا أَصْحَابُنَا: فَلَيْسَ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ: أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ مَرِيضًا، وَإِنَّمَا فِيهِ «عِنْدَ مَوْتِهِ» وَقَدْ يَفْجَأُ الْمَوْتُ الصَّحِيحَ فَيُوقِنُ بِهِ، فَلَا يَحِلُّ أَنْ يُقْحَمَ فِي الْخَبَرِ مَا لَيْسَ فِيهِ مِنْ ذِكْرِ الْمَرَضِ - فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِهِ.
وَأَيْضًا: فَقَدْ بَيَّنَّا قَبْلُ أَنَّ هَذَا الْعِتْقَ لِلسِّتَّةِ الْأَعْبُدِ إنَّمَا كَانَ وَصِيَّةً -: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ عَنْ أَيُّوبَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَفِي هَذَا كِفَايَةٌ.
وَوَجْهٌ ثَالِثٌ: هُوَ أَنَّهُ قَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ الْخَبَرَ أَنَّهُ لَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُمْ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِهَذَا حَقًّا، فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ عِتْقٌ فِي عَبْدٍ أَوْ عَبِيدٍ لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ، يُنَفَّذُ مِنْ ذَلِكَ الْعِتْقِ مَا وَقَعَ فِيمَنْ بِهِ عَنْهُ غِنًى، وَيَبْطُلُ فِي مِقْدَارِ مَا لَا غِنًى بِهِ عَنْهُ.
فَلَوْ صَحَّ أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ لَمْ يَكُنْ وَصِيَّةً لَكَانَ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَحَقَّ بِظَاهِرِهِ، وَأَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَجَازَ لِلْمَرِيضِ ثُلُثَ مَالِهِ، إذْ لَيْسَ فِي الْخَبَرِ دَلِيلٌ - عَلَى هَذَا أَصْلًا.