فَإِنْ ذَكَرُوا حَدِيثَ سَعْدٍ فِي الْوَصِيَّةِ؟ قُلْنَا: هُوَ عَلَيْكُمْ؛ لِأَنَّ أَمْرَ الْوَصِيَّةِ غَيْرُ أَمْرِ الصَّدَقَةِ الْمُنَفَّذَةِ فِي الْحَيَاةِ بِاتِّفَاقٍ مِنَّا وَمِنْكُمْ - وَأَيْضًا فَقَدْ مَنَعَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْ الصَّدَقَةِ بِنِصْفِهِ، وَأَنْتُمْ لَا تَقُولُونَ هَذَا، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُوصِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ؛ وَلَوْ تَرَكَ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ أَوْ أَكْثَرَ - وَيُرَدُّ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنْتُمْ لَا تَقُولُونَ: بِرَدِّ مَا نَفَذَ مِنْ الصَّدَقَةِ بِأَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِهِ فِي حَيَاتِهِ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا مَنْ نَذَرَ نَحْرَ نَفْسِهِ أَوْ ابْنِهِ -: فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: سَمِعْت الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ يَقُولُ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَمَّنْ نَذَرَ أَنْ يَنْحَرَ ابْنَهُ؟ فَقَالَ: لَا يَنْحَرْ ابْنَهُ، وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ، فَقِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: كَيْفَ تَكُونُ فِي طَاعَةِ الشَّيْطَانِ كَفَّارَةٌ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ} [المجادلة: 2] ثُمَّ جَعَلَ فِيهِ مِنْ الْكَفَّارَةِ مَا رَأَيْت.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: لَا حُجَّةَ لِابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
أَوَّلُ ذَلِكَ -: أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ هُوَ فِي طَاعَةِ الشَّيْطَانِ الَّتِي شَبَّهَهَا بِطَاعَتِهِ فِي الظِّهَارِ، الْكَفَّارَةَ الَّتِي فِي الظِّهَارِ وَيَكْفِي هَذَا - ثُمَّ لَوْ طَرَدَ هَذَا الْقَوْلُ لَوَجَبَتْ فِي كُلِّ مَعْصِيَةٍ كَفَّارَةُ يَمِينٍ - وَهَذَا لَا يَقُولُهُ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ.
وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْت عَلَيَّ حَرَامٌ، أَنَّهَا لَا تَحْرُمُ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَجْعَلْ فِيهِ كَفَّارَةً - وَهَذَا أَصَحُّ أَقْوَالِهِ -: وَقَدْ رُوِّينَا عَنْهُ غَيْرَ هَذَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَهُ: نَذَرْت لَأَنْحَرَنَّ نَفْسِي؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107] فَأَمَرَهُ بِكَبْشٍ، قَالَ عَطَاءٌ: يُذْبَحُ الْكَبْشُ بِمَكَّةَ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: فَقُلْت لِعَطَاءٍ: نَذَرَ لَيَنْحَرَنَّ فَرَسَهُ أَوْ بَغْلَتَهُ؟ فَقَالَ: جَزُورٌ أَوْ بَقَرَةٌ؟ فَقُلْت لَهُ: أَمَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ بِكَبْشٍ فِي نَفْسِهِ، وَتَقُولُ فِي الدَّابَّةِ جَزُورٌ؟ فَأَبَى عَطَاءٌ إلَّا ذَلِكَ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَيْضًا حُجَّةٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ؛ لِأَنَّ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَنْذُرْ ذَبْحَ وَلَدِهِ، لَكِنْ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِذَبْحِهِ فَكَانَ فَرْضًا عَلَيْهِ أَنْ يَذْبَحَهُ، وَكَانَ نَذْرُ النَّاذِرِ نَحْرُ وَلَدِهِ أَوْ نَفْسِهِ مَعْصِيَةً مِنْ كِبَارِ الْمَعَاصِي، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُشَبَّهَ الْكَبَائِرُ بِالطَّاعَاتِ.