أَمَّا الْقُرْآنُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5]] . وَقَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ مَا ذَكَّوْهُ، لَا مَا أَكَلُوهُ، لِأَنَّهُمْ يَأْكُلُونَ الْخِنْزِيرَ، وَالْمَيْتَةَ، وَالدَّمَ، وَلَا يَحِلُّ لَنَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِإِجْمَاعٍ مِنْهُمْ وَمِنَّا، فَإِذْ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَمْ يَشْتَرِطْ اللَّهُ تَعَالَى مَا أَكَلُوهُ مِمَّا لَمْ يَأْكُلُوهُ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64] .
وَأَمَّا الْقُرْآنُ، وَالْإِجْمَاعُ: فَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ، وَصَحَّ الْإِجْمَاعُ بِأَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ نَسَخَ كُلَّ دِينٍ كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنَّ مَنْ الْتَزَمَ مَا جَاءَتْ بِهِ التَّوْرَاةُ أَوْ الْإِنْجِيلُ، وَلَمْ يَتَّبِعْ الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ كَافِرٌ مُشْرِكٌ، غَيْرُ مَقْبُولٍ مِنْهُ، فَإِذْ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَقَدْ أَبْطَلَ اللَّهُ تَعَالَى كُلَّ شَرِيعَةٍ كَانَتْ فِي التَّوْرَاةِ، وَالْإِنْجِيلِ، وَسَائِرِ الْمِلَلِ، وَافْتَرَضَ عَلَى الْجِنِّ، وَالْإِنْسِ: شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ، فَلَا حَرَامَ إلَّا مَا حُرِّمَ فِيهِ، وَلَا حَلَالَ إلَّا مَا حُلِّلَ فِيهِ، وَلَا فَرْضَ إلَّا مَا فُرِضَ فِيهِ - وَمَنْ قَالَ فِي شَيْءٍ مِنْ الدِّينِ خِلَافَ هَذَا فَهُوَ كَافِرٌ بِلَا خِلَافٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ. وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْجِهَادِ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا مِنْ حَدِيثِ جِرَابِ الشَّحْمِ الْمَأْخُوذِ فِي خَيْبَرَ فَلَمْ يَمْنَعْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَكْلِهِ، بَلْ أَبْقَاهُ لِمَنْ وَقَعَ لَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد الطَّيَالِسِيِّ نا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ عَنْ حُمَيْدٍ بْنِ هِلَالٍ الْعَدَوِيِّ سَمِعْتُ «عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ يَقُولُ دُلِّيَ جِرَابٌ مِنْ شَحْمٍ يَوْمَ خَيْبَرَ فَأَخَذْتُهُ وَالْتَزَمْتُهُ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ لَكَ» . وَالْخَبَرُ الْمَشْهُورُ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ «أَنَّ يَهُودِيَّةً أَهْدَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَاةً مَسْمُومَةً فَأَكَلَ مِنْهَا» وَلَمْ يُحَرِّمْ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْهَا لَا شَحْمَ بَطْنِهَا وَلَا غَيْرَهُ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَمِنْ الْمُحَالِ الْبَاطِلِ أَنْ تَقَعَ الذَّكَاةُ عَلَى بَعْضِ شَحْمِ الشَّاةِ دُونَ بَعْضٍ، وَمَا نَعْلَمُ لِقَوْلِهِمْ هَهُنَا حُجَّةً أَصْلًا، لَا مِنْ قُرْآنٍ، وَلَا مِنْ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ، وَلَا رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ، وَلَا قِيَاسٍ. وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5] وَمِنْ طَعَامِنَا الشَّحْمُ، وَالْجَمَلُ، وَسَائِرُ مَا يُحَرِّمُونَهُ أَوْ حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ عَلَى لِسَانِ مُوسَى، ثُمَّ نَسَخَهُ وَأَبْطَلَهُ وَأَحَلَّهُ عَلَى لِسَانِ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - بِقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ عِيسَى