ثالثاً: أن الاستدلال باختلاف ترتيب مصاحف الصحابة ليس بحجة على أن الترتيب ليس بتوقيفي، وههنا قاعدة عامة فيما يتعلق بأمر القراءة والمصحف، وهي أنه قبل إجماع الصحابة على إلزام عثمان بما أرسله للأمصار لم يكن هناك اتفاق في ما يتعلق بأمر القراءة ولا المصحف؛ لذا تجد أن بعضهم كان يقرئ بكل ما سمع من النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنه لم يبلغه أنها مما تُرِك في العرضة الأخيرة، وقد مرَّ ذكر قراءة أبي الدرداء وابن مسعود رضي الله عنهما لقوله تعالى: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} بإسقاط {وَمَا خَلَقَ}، وهي قراءة صحيحة، لكنها مما لم يقرئه جبريل النبي صلّى الله عليه وسلّم في العرضة الأخيرة، ولو قيل غير ذلك، لزُعِم أن في القرآن نقصاً، وذلك مذهب أهل السوء والرداءة الذين ينقمون على الصحابة الكرام.
بل لقد صحَّ عن ابن مسعود رضي الله عنه ما هو أكثر من مخالفة ترتيب مصحف عثمان رضي الله عنه، فإنه كان لا يرى المعوذتين من القرآن، فقد روى الإمام أحمد بسنده عن زر بن حبيش، قال: «قلت لأُبي بن كعب: إن ابن مسعود كان لا يكتب المعوذتين في مصحفه، فقال أشهد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخبرني أن جبريل عليه السلام قال له: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} فقلتها، فقال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} فقلتها. فنحن نقول ما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم» (?).
وهذا المذهب الذي ذهب إليه ابن مسعود رضي الله عنه (ت32هـ) لم يوافقه عليه الصحابة، ولا كان من المرضي عنه فيه، وإن كان يراهما وحياً لكن لم يجعلهما من القرآن، وإنما كان يقول: «إنما أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يتعوذ بهما» (?).
والذي يظهر من أمر القرآن أن الأصل فيه النقل في كل أموره، في