وإذا تأملت قوله تعالى: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} الذي جاء في سياق الأمر بالإنفاق في الجهاد في سبيل الله، وجدته أمراً عامّاً لا يختصُّ بترك النفقة فقط، بل ترك النفقة في الجهاد صورة من صور الإلقاء باليد إلى التهلكة، ولو اعتبرت خصوص السبب، فإنك لا يمكن أن تقيس غير أمور النفقة في هذا الموضع؛ لأنك ستكون محصوراً بصورة السبب فتقيس عليها، فتقول: أي ترك للنفقة فيه إلقاء باليد إلى التهلكة، فهو داخل في معنى الآية قياساً؛ كترك النفقة على الأولاد واليتامى والمساكين، فأنت تدخل هذه الصور لأنها تشارك أصل السبب في ترك النفقة. لكن إذا رأيت من يتقحم المنكرات والمعاصي فإنك لا تستطيع إدخاله في صورة السبب؛ لأن فعله لا علاقة له بالنفقة، وإن كان فيه إلقاءٌ باليد إلى التهلكة.
فإذا نزعت إلى العموم في جملة {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}، وجعلت صورة السبب ـ ترك النفقة في الجهاد ـ مثالاً = صحَّ عندك إدخال كل صورة فيها إلقاءٌ باليد إلى التهلكة، فتدخل من يشرب المسكرات والمخدرات والدخان؛ لأنه يلقي بيده إلى التهلكة، وكذا غيرها من الصور التي تدخل في هذا المقطع، والله أعلم.
وبهذا يتبين أن القول بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب أشمل للمعاني من القول بأن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ، وأن غير السبب يدخل قياساً.
ومن ثَمَّ يمكن أن تسبك عدداً من القواعد من خلال هذه الأمثلة:
الأولى: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
الثانية: كل سبب نزل على صورة معينة فإنه لا يجري العموم فيه في غير صورة السبب؛ لأن اللفظ نزل مقيداً بها، فيدخل فيه من فعل مثل ذلك الفعل؛ كقضية الفدية لمن حلق رأسه بسبب أذى أثناء إحرامه.
الثالثة: صورة السبب أول ما يدخل في عموم معنى الآية؛ كترك النفقة في آية: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}.