أما بعد، فان الله [1] مؤيد أهل الآداب بالتعظيم والتبجيل وفصل الخطاب، ومطلع نجوم سعودهم في سماء كل جيل على مر السنين والأحقاب، وقد اخترتك بالحكمة والتفضيل للوقوف على هذا الكتاب، وأخبرتك بما جرى بيني وبين الدنيا من أقاويل ورد الجواب، وذلك اني أجريت في بعض الأيام ذكر زخارفها والأباطيل بين خواص الأصحاب، وتذاكرنا كم لها من قتيل وصريع بسهام شهواتها ومصاب وسليم، بسلاسته سلسبيل، لمى ثناياها العذاب، وجلنا في ميادين مخادعتها بخيل التعجب أبعد مجال وولجنا في أبواب مختلفة من مكرها والاحتيال، وكيف تتزين لخطابها بجلابيب جمال المحال، وتجرر ذيول التذلل والاختيال، تلاعب من بنيها الأطفال، وتلهيهم بخشاخيش [2] الانتقال من حال إلى حال، وتجذب بأزمة عقول الشباب والكهول من الرجال، إلى خواص غمرات الأهوال، لبلوغ الكواذب من الآمال، وتطمع الشيب من فسح الآجال، تمطيهم بعجزهم ركائب الحرص، فتراهم بين شد دائم وترحال./
ولم تزل كذلك حتى آذن النهار بالزوال، وأتى أتيّ الليل من جميع الجهات، وسال ومال بنا ركب السهر إلى معرس الهجوع، وهمّ كلّ منا إلى منزله بالرجوع، فلما أويت إلى مضجعي وطفقت سوام العيون في رياض الغمض ترتعي، هتف بي هاتفها [3] من وراء حجاب، وخاطبتني مخاطبة الكواعب الأتراب، وأفحمتني من البلاغة بما يليق من الجواب، وأدارت عليّ حميّ العتاب، بكؤوس من التلطف وأكواب، ثم قالت: يا هذا أتتعرض لشتمي في الملا، وتتودد إلىّ في الخلا، وتذم من تيمك هواها وتسب من سباك على الوصف حسن مرآها، قلبك بفنون جمالها مفتون، وجنانك بليلى حبها مجنون، ما هذا من الإنصاف، ولا يعدّ من المحبين [4] من اتصف بهذا الاتصاف، أما أنت المعرّض في فريضتك بذكري، أما أنت المعرض خدم جوارحك لخدمة قهري، أما أنت المتألم من صدودي وهجري، أما أنت المكنّي بأسماء مقصودك اسمي، أما أنت المتذلل لأوامري وحكمي، ألست القائل والعاذل بسمعك عن طريق العاذل: [الطويل]
أيجمل بي يا جمل طوع العواذل ... وحبك جار في جميع مفاصلي
ولو ملت يوما عن هواك تجردت ... سيوف صبابات أصبن مقاتلي