وقد رأينا في وقتنا هذا من استولت عليه هذه الوساويس حتى وقع في شبه صاحب المانلخويا بحيث لو اطلع الناس على ما هو فيه رموه في المارستان، ولكن ستر الله تعالى يغطي على عبيده.
وممن ابتلي بهذا قريباً أحمد بن عبد الله بن أبي محلى، وكان صاحب ابن مبارك التستاوتي في الطريق حتى حصل له نصيب من الذوق، وألف فيها كتباً تدل على ذلك، ثم نزعت به هذه النزعة، فحدثونا أنه في أول أمره كان معاشراً لابن أبي بكر الدلائي المتقدم الذكر، وكان البلد إذ ذاك قد كثرت فيه المناكر وشاعت، فقال لابن أبي بكر ذات ليلة: هل لك أن تخرج غداً إلى الناس فتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فلم يساعفه لما رأى من تعذر ذلك لفساد الوقت وتفاقم الشر، فلما أصبحا خرجا، فأما ابن أبي بكر فانطلق إلى ناحية النهر فغسل ثيابه وأزال شَعَثَهُ بالحلق، وأقام صلاته وأوراده في أوقاتها، وأما ابن أبي محلى فتقدم لما هم به من الحسبة فوقع في شر وخصام أدّاه إلى فوات الصلاة عن الوقت ولم يحصل على طائل، فلما اجتمعا بالليل قال له ابن أبي بكر: أما أنا فقد قضيت مآربي، وحفظت ديني، وانقلبت في سلامة وصفاء، ومن أتى منكراً فالله " هو " حسيبُهُ أو نحو هذا، وأما أنت فانظر ما الذي وقعت فيه. ثم لم ينته إلى أن ذهب إلى بلاد القبلة ودعا لنفسه وادعى أنه المهدي المنتظر، وأنه بصدد الجهاد، فاستخف قلوب العوام واتبعوه، فدخل بلد سجلماسة وهزم عنه والي الملوك السعدية واستولى عليه، ثم أخرجهم من درعة، ثم تبعهم إلى حضرة مراكش، وفيها زيدان بن أحمد المنصور فهزمه. وأخرجه منها، وذهب فاستغاث بأهل السوس الأقصى فخرجوا إلى ابن أبي محلى فقتلوه وهزموا عسكره شذر مذر فكان آخر العهد به، ورجع زيدان إلى ملكه. وحدثونا أنه كان ذات يوم عند أستاذه ابن مبارك قبل ذلك فورد عليه وارد حال فتحرك وجعل يقول: أنا سلطان، أنا سلطان، فقال له الأستاذ: يا أحمد " هب أنك تكون سلطاناً ") إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً (.
وفي يوم آخر وقع للفقراء سماع فتحرك وجعل يقول: أنا سلطان، فتحرك فقير أخر في ناحية وجعل يقول: ثلاث سنين غير ربع، وهذه هي مدة ملكه، " وقد رمزوا له ذلك " فقالوا: قام طيشاً، ومات كبشاً، أي قام في تسعة عشر بعد ألف، ومات في اثنين وعشرين بعدها. وزعموا أن إخوانه من الفقراء ذهبوا إليه حين دخل مراكش برسم زيارته وتهنئته، فلما كانوا بين يديه أخذوا يهنئونه ويفرحون له بما حاز من الملك، وفيهم رجل ساكت لا يتكلم، فقال: ما شأنك لا تتكلم؟ وألح عليه في الكلام، فقال له الرجل: أنت اليوم سلطان، فإن أمنتني على أن أقول الحق قلته، فقال له: أنت آمن فقل، فقال: إن الكرة التي يلعب بها يتبعها المائتان وأكثر من خلفها، وينكسر الناس وينجرحون، وقد يموتون، ويكثر الصياح والهول فإذا فتشت لم تجد " بداخلها " إلاّ شراويط أي خرقاً بالية ملفوفة فلما سمع ابن أبي محلى هذا المثال وفهمه بكى وقال: رمنا أن نحيي الدين فأتلفناه.
واعلم أن هذه الدعوى أعني دعوى الفاطمية بلوى قديمة كما أشار إلى ذلك بعض الأئمة، وكان الشيعة ادعوا ذلك لزيد بن علي، فلما قام على هشام ظفر به يوسف بن عمر فصلبه، فقال بعض شعراء بني مروان يخاطب الشيعة:
صلبنا لكم زيداً على جذع نخلة ... ولم نر مهدياً على الجذع يصلب
لله الأمر من قبل ومن بعد