تلك الموازين والرحمان أنزلها ... رب البرية بين الناس مقياسا

وقال عَبيدٌ:

ما مدلجات على هول ركائبها ... يقطعن بعد النوى يسراً وامراسا

فقال امرؤ القيس:

تلك النجوم إذا حانت مطالعها ... شبهتها في ظلام الليل أقباسا

وقال عَبيدٌ:

ما قاطعات بلاد الله في طلق ... إذا استبقن ولا يرجعن قرطاسا

فقال امرؤ القيس:

تلك الأماني يتركن الفتى ملكاً ... دون السماع ولم ترفع له راسا

فعجب عَبيدٌ من بداهة أمرئ القيس وقال له: ما أرى أحداً يخوض تيّارك. قالوا: فكان امرؤ القيس مدلاّ بنفسه لا يرى لشاعر فضلاً حتى لقي التوأم اليشكري، فتنازعا الشعر، فقال له امرؤ القيس: إن كنت شاعراً كما تزعم فملط أنصاف ما أقول، فقال له: قل: فقال امرؤ القيس:

أحارِ ترى بريقاً هبَّ وَهْناً

فقال التوأم:

كنار مجوس تستعر استعارا

فقال امرؤ القيس:

أرِقْتُ ونام أبو شُرَيْحٍ

فقال التوأم:

إذا ما قلت قد هدأ استطارا

فقال امرؤ القيس: كأن هزيزه بوراء غيب فقال التوأم:

عشارٌ وُلَّهٌ لاقت عشارا

فقال امرؤ القيس:

فلما أن دنا لقفا أضاخ

فقال التوأم:

وهت أعجاز ريِّقه فحارا

فقال امرؤ القيس:

فلم يترك بذات السر ظبياً

فقال التوأم:

ولم يترك بجلتها حمارا

فبهت امرؤ القيس مما راى من بداهة اليشكري، وأقسم ألا ينازع الشعر أحداً.

واجتع الطرماح بذي الرمة فقال له: هل نتساجل، فقال: قل، فقال ذو الرمة:

فماذا زينة قد زينوه ... لغير زيادة ولغير عيد

فقال الطرماح:

هو الميت المكفن في ثياب ... يلف بها إلى القبر الجديد

وقال ذو الرمة:

وبنيان شديد الأيْدِ عالٍ ... بلا مدر أقل ولا عمود

فقال الطرماح:

فتلك سماؤنا خلقت ظلالاً ... بناها الله ذو العرش المجيد

وقال ذو الرمة:

وحسناء المناظر كل يوم ... لها وجه يضرب بالحديد

فقال الطرماح:

هو الوَرِقُ التي في الكير تجلى ... تخلص بالمطارق والوقود

وهذا الباب لا ينحصر، وإنما أشرنا إلى شيء مما وقع للعرب ليعلم أنهم يتنبهون لمثل ذلك، وما وقع بعدهم في كل زمان إلى اليوم أكثر وأكثر.

لله الأمر من قبل ومن بعد

باب في

نبذة من المضحكات والملح

باب - وهذه نبذة في المضحكات وكل ما تنبسط به النفس من الملح، واعلم أن هذا النوع هو للعقل فاكهة، كما أن الحكمة السابقة هي غذاؤه وقوامه، فلا بد من كل منهما في استصلاح العقول وإزالة جساوتها وتنمية ذكائها، غير أن الملح تكون بقدر الحاجة كالملح للطعام، وإلى ذلك أشار القائل:

أفسد طبعك المكدود بالجد راحة ... تفره وعلله بشيء من المزح

ولكن إذا أعطيته المزح فليكن ... بمقدار ما يعطى الطعام من الملح

وقال ابن عباس رضي الله عنه: إذا مللتم فأحمضوا إي إذا مللتم من الجد فخذوا في شيء من الهزل، وقالوا: الانبساط بين أهل المروءة يسقط الحشمة، ويؤكد الحرمة، ويفتق البديهة، ويشحذ الطبيعة، وقال آخر: من كمال المرء مفاكهة إخوانه، إذ ممازحة الكريم تزيد في وده وتديم إخاءه، وقال الشاعر " في ذلك ":

ممازحة الكريم تزيد وداً ... إذا كانت تضاف إلى الملاحة

فمازح من تحب وتصطفيه ... فمزحك مع صديقك فيه راحة

ولا بد أن يكون ذلك على قدر، ومع أهله، وإلاّ كان سخفاً ومجلبة لكل سوء، ولذلك قال عمر رضي الله عنه: من كثر ضحكه استخف " به " وذهب بهاؤه، وقال سعيد بن العاصي: لا تمازح الشريف " فيحقد " ولا الدنيء فيجترئ، وقال جعفر بن محمد: إياكم والمزاح فإنه يذهب بنور الوجه، وقال الشاعر:

الكبر ذل والتواضع رفعة ... والمزح والضحك الكثير سقوط

والحرص فقر والقناعة عزة ... واليأس من صنع الإله قنوط

غيره:

وإياك إياك المزاح فإنه ... يجري عليك الطفل والرجل النذلا

ويذهب ماء الوجه بعد بهائه ... ويورثه من بعد عزته ذلا

فهذا كله من الإفراط ومع ممازحة الأنذال أو مفاتحة النذل من فوقه من الأشراف بالمزاح، فإنه إنما يحسن بين الأكفاء والله الموفق.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015