القيان

قال الأصمعي بعث إليّ هارون الرشيد، وهو بالرقة فحملت إليه، فأنزلني الفضل بن الربيع، ثم أدخلني عليه وقت الغروب، فاستدناني، وقال: يا عبد الملك، وجهت إليك بسبب جاريتين أهديتا إليّ، وقد أخذنا طرفاً من الأدب أحببت إن تبرز ما عندهما، وتسير على الصواب فيهما، ثم أمر بإحضار هما فحضرت جاريتان ما رأيت مثلهما قط، قلت لإحداهما، «ما عندك من العلم» ؟ قالت: «ما أمر الله في كتابه، ثم ما ينظر فيه الناس من الأشعار والأخبار» . فسألتها عن حروف القرآن، فأجابتني كأنها تقرأ في كتاب الله. ثم سألتها عن الأشعار والأخبار والنحو والعروض، فما قصرت عن جوابي في كل من أخذت فيه. فقلت لها: فأنشدينا شيئاً فأنشدت:

يا غياث البلاد في كل محل ... ما يريد العباد إلا رضاكا

لا ومن شرف الإمام، وأغلى ... ما أطاع الإله عبدٌ عصاكا

فقلت: يا أمير المؤمنين! ما رأيت امرأة في نسك رجل مثلها، وخبرت الأخرى، فوجدتها دونها، فأمر أن تصنع تلك الجارية لتحمل إليه في تلك الليلة، ثم قال لي: «يا عبد الملك، أنا ضجرٌ، وأحب أن تسمعني حديثاً مما سمعت من أعاجيب الزمان نفرح به» . فقلت: يا أمير المؤمنين! كان لي صاحب في بدو بني فلان، وكنت أغشاه، وأتحدث معه، وقد أتت عليه ست وتسعون سنة، وهو اصح الناس ذهناً، وأقواهم بدناً، فغبت عنه، ثم أتيته، فوجدته ناحل البدن، كاسف البال، فسألته عن سبب تغيره، فقال: قصدت بعض القرابة، فألفيت عندهم جارية قد طلت بالورس بدنها، وفي عنقها طبل تنشد عليه:

محاسنها سهامٌ للمنايا ... مريشةٌ بأنواع الطيوب

ترى ريب المنون بهن سهماً ... تصيب بنصله مخ القلوب

فقلت:

قفي شفتي من موضع الطبل ترتعي ... كما قد أبحت الطبل في جيدك الحسن

طور بواسطة نورين ميديا © 2015