ما تجيئين به اليوم» . فتحادثنا ساعة، ثم قالت تلك الظريفة: «ما أحوج هذين إلى الخلوة، فنهضت وسائر النساء، فصرت إلى بيت قريب منهما حيث أراهما، فما ارتبت بشيء، ولا رأيت أمراً كرهته، فلبث ساعة، ثم أتاني، ومعه قارورة وثلاث قلائد، فقال: «هذا طيب زودتناه مي، وقلائد أتحفتك بها ابنة الجودي» .

فكنا نختلف إليها حتى انقضى المربع، ودعانا الصيف، فرحلوا قبلنا، وأتاني ذو الرمة فقال: «قد ظعنت مي، فلم يبق إلا الديار، والنظر إلى الآثار، فاخرج بنا إلى دارها، فخرجت معه، حتى إذا وقفنا عليها، أنشأ يقول:

ألا فاسلمي يا دار مي على البلى ... ولا زال منهلاً بجرعائك القطر

حتى أتى على آخرها، ثم انهملت عيناه بصبره. فقلت له: «ما هذا» ؟ فقال: «إني لجليد، وإن كان مني ما ترى» . فما رأيت أحداً أحسن شوقاً وصبابة وعزاء منه.

وعن سليمان، رواية أبي نواس، قال: كنت مع أبي نواس أسير حتى انتهينا إلى درب القراطيس، فخرج من الدرب شيخ نصراني، وخلفه غلامٌ كأنه غصن بانٍ يتثنى كأحسن ما رأيت، فقال: «يا سليمان، أما ترى الدرة خلف البصرة» ؟ ثم قال: «هل لك أن تأخذ مني رقعة فتوصلها إليه» ؟

قلت: «بلى» . فكتبها، ودفعها إلي، فأوصلتها إليه، فإذا أملح غلام وأخفه روحاً، فقال: «من صاحب الرقعة» ؟ قلت: «أبو نواس» ، قال:

«أين هو» ؟ قلت: «على باب درب القراطيس» . قال: «فليقف مكانه حتى أروح» ، وكان في الرقعة:

تمر فأستحييك أن أتكلما ... ويثنيك زهو الحسن عن أن تسلما

ويهتز في ثوبيك كل عشيةٍ ... قضيبٌ من الريحان أضحى منعما!

فحسبك أن الجسم قد شفه الهوى ... وأن جفوني فيك قد ذرفت دما

أليس عجيباً عند كل موحدٍ ... غزالٌ مسيحي يعذّب مسلما

طور بواسطة نورين ميديا © 2015