لقد أتم الله الإسلام، وجعله صالحا لكل زمان ومكان، مصداق ذلك قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً) (المائدة: 3)، وما من قضية، وما من مسألة، إلا ولله فيها حكما، إما في القرآن، لأن الله تعالى قال: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل: 89)، وإلا ففي سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، لأن الله قال: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) (النجم: 3،4)، فإن لم يوجد فإن الله تعالى بين لنا الطريق الصحيح لاستخراج أحكام المسائل، حيث قال: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) (الأنبياء: 7).
فعندما تشتبه المسائل، ولا تكون الأحكام واضحة، فلا بد من الرجوع إلى أهل العلم، حيث محبتهم دين وإيمان، وبكلامهم وتفسيرهم للنصوص نعبد الله، وبفتاواهم نعرف الحلال من الحرام.
ومن جانب آخر، فقد حث الله على الاجتماع، والتعاون على البر والتقوى، ولقد ورد في كتاب الله الآيات الكثيرة التي تحث على الاجتماع، وتذم التفرق، فمن هذه الآيات، قوله تعالى: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ) (آل عمران: 103)، وقوله تعالى (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (آل عمران: 106)، وغير ذلك من الآيات، وكذلك في السنة، فقد ورد العدد الكبير من الأحاديث، التي تدل على فضيلة الاجتماع، وتذم التفرق، فمن هذه الأحاديث:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من خرج من
الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية) رواه مسلم: 4892.
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا) رواه مسلم: 2585.
ومن الأحاديث أيضا حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: خطبنا عمر بالجابية، فقال: (يا أيها الناس إني قمت فيكم كمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا، قال: ........... عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة .............. )
رواه الترمذي: 2318، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب، وصححه الألباني في السلسة الصحيحة: 430.
ومن الأحاديث أيضا، حديث أبي الدرداء، قال: سمعت رسول الله عليه وسلم يقول: (ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان فعليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية)
رواه أبو داود: 547، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (427): حسن صحيح.
وإذا كان هذا في الاجتماع بشكل عام، فلا شك أن اجتماع العلماء له أهمية بالغة في التشريع الإسلامي، (وتتجلى أهميته من خلال مجموعة الأمور التي يحققها، ولعل أبرز تلك الأمور: أنه يحقق مبدأ الشورى في الاجتهاد، كما أنه يكون أكثر دقة وإصابة من الاجتهاد الفردي، كما أنه يقوم مقام الإجماع عند بعض العلماء، كما أنه يسد إلى حد كبير الفراغ الذي يحدثه غياب المجتهد المطلق) (?).
كما وأن الاجتهاد الجماعي يجعل الثقة أكبر في الأمور التي تم التوصل إليها في الفتاوى والأحكام، سواء في نفس المجتهد، أم في نفس القارئ، أو المستفتي. وذلك لأن رأي الجماعة أقرب إلى الصواب من رأي الفرد، مهما كان الفرد قد بلغ ونبغ في العلم، فعندما تجتمع العقول، وتلتقي الأفكار، ويكثر النقاش، قد تبرز أشياء لم يكن أحد ليحسب لها حساب، وقد تتغير الفتوى من أجل بعض المناقشات. (?)
(ولا شك أن الاجتهاد الجماعي سبيل إلى توحيد الأمة الإسلامية، وتوحيد كلمتها، واتحاد رؤيتها في ما يحل مشاكلها، لتبني على ذلك توحدها في المواقف والتعاملات، بعيدا عن الرؤى الفردية المتناثرة، التي تأتي على الأمة بالتفرق في الأفكار، والتشتت في الصف، والتضارب في الأحكام، مما يجعل الناس في حيرة من أمرهم، وفيما ينبغي أن يعملوا به في القضايا العامة التي تحتاج إلى توحيد الموقف، واتحاد في الحكم، ولعل الاجتهاد الجماعي سبيل كبير إلى ذلك). (?)
وما لا شك فيه أن الاجتهاد الجماعي يوجد التكامل في المجتهدين، وذلك لغياب
المجتهد المطلق وفق شروطه التي وضعها العلماء، وحتى لا تظهر الأمة على أنها عاجزة عن إيجاد المجتهد المطلق، فلا بد من الاجتهاد الجماعي الذي قد يسد هذا النقص، فيكمل العلماء بعضهم بعضا (?).