"إنه خرج في يوم دَجْن، وقد تطيب وشرب فطرد البقر فصرع منها، ثم أتاني وبه نضح دم، فضمَّني ضمًّا، وشمَّني شمَّة، فليتني متَّ ثمة، فلم أر منظرًا كان أحسن من لقيط".
فقولها: "ضمَّني ضمَّة، وشمَّني شمة، فليتني متُّ ثمة" من الكلام الحلو في باب اللزوم ولا كلفة عليه.
وهكذا فليكن، فإن الكلفة وحشة تذهب برونق الصنعة، وما ينبغي لمؤلف الكلام أن يستعمل هذا النوع حتى يجيء به متلكفًا، ومثاله في هذا المقام كمن أخذ موضوعًا رديئًا فأجاد فيه صنعته، فإنه يكون عند ذلك قد راعى الفرع وأهمل الأصل، فأضاع جودة الصنع في رداءة الموضوع.
وقد سلك ذلك أبو العلاء المعري أحمد بن عبد الله بن سليمان، فمِمَّا جاء من ذلك قوله في حرف التاء مع الخاء1:
بنتُ عن الدنيا ولا بنتَ لي ... فيها ولا عِرسٌ ولا أخت
وقد تحملْتُ من الوزر ما ... تعجز أن تحمله البُخْت2
إن مدحوني ساءني مدحهم ... وخلت إني في الثرى سخت
وله من ذلك الجيد، كقوله:
لا تطلبنَّ بآلةٍ لك حاجةً ... قلم البليغ بغير جدٍّ مغزل
سكن السَّما كان3 السماء كلاهما ... هذا له رمحٌ وهذا أعزل
وهذا بين الاسترسال وبين الكلفة.
وأمَّا ما تكلف له تكلّفًا ظاهرًا -وإن أجاد- فقوله4:
تنازع في الدنيا سواك وما له ... ولا لك شيء في الحقيقة فيها