ثمَّ هُوَ أَيْضا منفك عَن مَحل الِاسْتِدْلَال، لِأَن عمل هَذِه الْأمة آخر النَّهَار، كَانَ أفضل من عمل الْمُتَقَدِّمين قبلهَا. وَلَا خلاف أَن صَلَاة الْعَصْر مُتَقَدّمَة أفضل من صلَاتهَا مُتَأَخِّرَة. ثمَّ هَذَا من الخصائص المستثناة عَن الْقيَاس. فَكيف يُقَاس عَلَيْهِ؟ أَلا ترى أَن صِيَام آخر النَّهَار، لَا يقوم مقَام صِيَام جملَته. وَكَذَلِكَ سَائِر الْعِبَادَات. فَالْأول أولى. وَالله أعلم.
فِيهِ مَالك بن الْحُوَيْرِث: قَالَ أتيت النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي نفر من قومِي، فَأَقَمْنَا عِنْده عشْرين لَيْلَة. وَكَانَ رحِيما رَفِيقًا. فَلَمَّا رأى شوقنا إِلَى أَهْلينَا. قَالَ: ارْجعُوا فكونوا فيهم، وعلّموهم وصلوا. فَإِذا حضرت الصَّلَاة فليؤذّن لكم أحدكُم، وليؤمّكم أكبركم.
قلت: رَضِي الله عَنْك؛ ترْجم على اذان الْمُسَافِر، وأتى بِهَذَا الحَدِيث. وَإِنَّمَا بيّن لَهُم فِيهِ حَالهم، إِذا وصلوا إِلَى أهلهم. وحينئذٍ قَالَ: " فَإِذا حضرت الصَّلَاة، فليؤذن لكم أحدكُم غير أَن لَهُ أَن لَا يَجْعَل الْكَلَام قاصراً على وصولهم إِلَى أَهْليهمْ، بل عَاما فِي أَحْوَالهم مُنْذُ خُرُوجهمْ من عِنْده.
وَفَائِدَة التَّرْجَمَة التَّنْبِيه على أَن وَاحِدًا من الْمُسَافِرين يَكْفِي أَذَانه دون بَقِيَّة الرّفْقَة، لِئَلَّا يتخيل أَنه لَا يَكْفِي الْأَذَان إِلَّا من جَمِيعهم.