الْكِتَابِ بِهِ عِنْدَنَا أَوْ نَقُولُ هَذَا مُبَيِّنٌ لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ، وَلَيْسَ بِنَاسِخٍ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ فِي الْكِتَابِ مُقَيَّدٌ بِشَرْطٍ مُبْهَمٍ هُوَ قَوْله تَعَالَى {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: 24].
وَهَذَا الشَّرْطُ مُبْهَمٌ فَالْحَدِيثُ وَرَدَ لِبَيَانِ مَا هُوَ مُبْهَمٌ فِي الْكِتَابِ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُعِثَ مُبَيِّنًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ} [النحل: 44] أَوْ نَقُولُ هَذَا الْحَدِيثُ مُقَرِّرٌ لِلْحُرْمَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْمُحَرَّمَاتِ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ؛ لِأَنَّ بَيْنَهُمَا رَحِمًا يُفْتَرَضُ وَصْلُهَا وَيَحْرُمُ قَطْعُهَا، وَفِي الْجَمْعِ قَطِيعَةٌ لِرَحِمٍ عَلَى مَا يَكُونُ بَيْنَ الضَّرَائِرِ مِنْ التَّنَافُرِ فَبَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ كُلَّ قَرَابَةٍ يُفْتَرَضُ وَصْلُهَا فَهِيَ فِي مَعْنَى الْأُخْتِيَّةِ فِي تَحْرِيمِ الْجَمْعِ وَاَلَّتِي بَيْنَ الْعَمَّةِ وَبِنْتِ الْأَخِ قَرَابَةٌ يُفْتَرَضُ وَصْلُهَا حَتَّى لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا ذَكَرًا وَالْأُخْرَى أُنْثَى لَمْ يَجُزْ لِلذَّكَرِ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْأُنْثَى صِيَانَةً لِلرَّحِمِ، وَإِذَا مَلَكَهُ عَتَقَ عَلَيْهِ تَحَرُّزًا عَنْ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ فَكَانَ الْحَدِيثُ مُقَرِّرًا لِلْحُرْمَةِ الْمَذْكُوَّةِ فِي الْقُرْآنِ لَا أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا قَالَ: وَبَلَغَنَا عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَأَمْنَعَنَّ النِّسَاءَ فُرُوجَهُنَّ إلَّا مِنْ الْأَكْفَاءِ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلسُّلْطَانِ يَدًا فِي الْأَنْكِحَةِ فَقَدْ أَضَافَ الْمَنْعَ إلَى نَفْسِهِ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِوِلَايَةِ السَّلْطَنَةِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الْكَفَاءَةَ فِي النِّكَاحِ مُعْتَبَرَةٌ وَأَنَّ الْمَرْأَةَ غَيْرُ مَمْنُوعَةٍ مِنْ أَنْ تُزَوِّجَ نَفْسَهَا مِمَّنْ يُكَافِئُهَا وَأَنَّ النِّكَاحَ يَنْعَقِدُ بِعِبَارَتِهَا
قَالَ: وَبَلَغَنَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ فِي نَفْسِهَا وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا وَالثَّيِّبُ تُشَاوَرُ»، وَمَعْنَى قَوْلِهِ تُسْتَأْمَرُ فِي نَفْسِهَا أَيْ فِي أَمْرِ نَفْسِهَا فِي النِّكَاحِ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْمَارِهَا أَبًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، وَيْلَ: مَعْنَاهُ تُسْتَأْمَرُ خَالِيَةً لَا فِي مَلَأٍ مِنْ النَّاسِ لِكَيْ لَا يَمْنَعَهَا الْحَيَاءُ مِنْ الرَّدِّ إذَا كَانَتْ كَارِهَةً، وَلَا تَذْهَبُ حِشْمَةُ الْوَلِيِّ عَنْهُ بِرَدِّهَا قَوْلَهُ «وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا»، وَفِي بَعْضُ الرِّوَايَاتِ «سُكُوتُهَا رِضَاهَا»، وَذَلِكَ عَلَى أَنَّ رِضَاهَا شَرْطٌ وَأَنَّ السُّكُوتَ مِنْهَا دَلِيلٌ عَلَى رِضًا فَيُكْتَفَى بِهِ شَرْعًا لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إنَّهَا تَسْتَحِي فَتَسْكُتُ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُكُوتُهَا رِضَاهَا»، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهَا تَسْتَحِي مِنْ إظْهَارِ الرَّغْبَةِ فِي الرِّجَالِ، وَإِذَا اُسْتُؤْمِرَتْ فَلَهَا جَوَابَانِ نَعَمْ أَوْ لَا، وَسُكُوتُهَا دَلِيلٌ عَلَى الْجَوَابِ الَّذِي يَحُولُ الْحَيَاءُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ ذَلِكَ الْجَوَابِ، وَهُوَ الرِّضَا دُونَ الْإِبَاءِ إذْ لَيْسَ فِي الْإِبَاءِ إظْهَارُ الرَّغْبَةِ فِي الرِّجَالِ، وَقَدْ يَكُونُ السُّكُوتُ دَلِيلَ الرِّضَا كَسُكُوتِ الشَّفِيعِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْبَيْعِ وَسُكُوتِ الْمَوْلَى عِنْدَ رُؤْيَتِهِ تَصَرُّفَ الْعَبْدِ عَنْ الْحَجْرِ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ «وَالثَّيِّبُ تُشَاوَرُ» دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُكْتَفَى بِسُكُوتِ الثَّيِّبِ فَإِنَّ