فَصْلِ الْقَضَاءِ، وَيَكُونُ سَبَبًا لِازْدِرَاءِ بَعْضِ الْجُهَّالِ بِهِ وَعَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ لَأَنْ أَقْضِيَ يَوْمًا بِالْحَقِّ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُرَابِطَ سَنَةً فَإِنَّ مَسْرُوقًا مِمَّنْ يُقَدِّمُ تَقَلُّدَ الْقَضَاءِ عَلَى الِامْتِنَاعِ عَنْهُ، وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي ذَلِكَ مُخْتَلِفِينَ وَابْتُلِيَ مَسْرُوقٌ بِالْقَضَاءِ وَمَنْ دَخَلَ فِي شَيْءٍ فَإِنَّمَا يَرْوِي مَحَاسِنَ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَقَدْ بَيَّنَّا طَرِيقَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي إيثَارِ التَّحَرُّزِ عَنْ تَقَلُّدِ الْقَضَاءِ، وَإِنَّمَا قَالَ مَسْرُوقٌ إنَّ الْقَضَاءَ يَوْمًا بِالْحَقِّ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُرَابِطَ سَنَةً لِمَا فِي إظْهَارِ الْحَقِّ مِنْ الْمَنْفَعَةِ لِلنَّاسِ وَدَفْعِ الظُّلْمِ عَنْ الْمَظْلُومِ وَاتِّصَالِ الْحَقِّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ وَمَنْعِ الظَّالِمِ عَنْ الظُّلْمِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ «عَدْلُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سَنَةٍ».
وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَأَنْ يُقَامَ حَدٌّ فِي أَرْضٍ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تُمْطِرَ السَّمَاءُ فِيهَا أَرْبَعِينَ صَبَاحًا» وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْهُ قَالَ الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ فَاثْنَانِ فِي النَّارِ وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ. فَأَمَّا اللَّذَانِ فِي النَّارِ فَرَجُلٌ عَلِمَ عِلْمًا فَقَضَى بِخِلَافِهِ وَرَجُلٌ جَاهِلٌ يَقْضِي بِغَيْرِ عِلْمٍ وَأَمَّا الْآخَرُ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا فَقَضَى بِهِ فَذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ وَلَا شُبْهَةَ فِي حَقِّ مَنْ قَضَى بِخِلَافِ مَا عَلِمَ فَإِنَّهُ أَقْدَمَ عَلَى النَّارِ عَنْ بَصِيرَةٍ وَكَتَمَ مَا عَلِمَ مِنْ الْحَقِّ فَكَانَ فِعْلُهُ كَفِعْلِ رُؤَسَاءِ الْيَهُودِ، وَفِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ {إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ} [البقرة: 159].
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146] وَأَمَّا الْجَاهِلُ فَمَا كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَقَلَّدَ الْقَضَاءَ وَيَلْتَزِمَ أَدَاءَ هَذِهِ الْأَمَانَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَدَائِهَا إلَّا بِالْعِلْمِ فَفِي الْتِزَامِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ بِهِ ظُلْمُ نَفْسِهِ، وَبَعْدَ التَّقَلُّدِ لَا ضَرُورَةَ لَهُ إلَى الْقَضَاءِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ أَنْ يَتَعَلَّمَ، أَوْ يَسْأَلَ الْعُلَمَاءَ وَيَقْضِيَ بِفَتَوَاتِهِمْ؛ فَلِهَذَا جَعَلَهُ فِي النَّارِ حِينَ قَضَى بِغَيْرِ عِلْمٍ وَاَلَّذِي قَضَى بِعِلْمِهِ أَظْهَرَ الْحَقَّ بِحُكْمِهِ، وَأَنْصَفَ الْمَظْلُومَ مِنْ خَصْمِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ وَمِثْلُ هَذَا لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالرَّأْيِ فَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَكِنَّهُمْ فِيمَا يَسْمَعُونَ رُبَّمَا يَرْفَعُونَ وَرُبَّمَا يُرْسِلُونَ وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ يُجَاءُ بِالْقَاضِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَلَكٌ آخِذٌ بِقَفَاهُ، ثُمَّ يَلْتَفِتُ. فَإِذَا أَقْبَلَ دَفَعَهُ دَفْعَةً فِي مَهْوَاةٍ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا
وَأَهْلُ الْحَدِيثِ يَرْوُونَ هَذَا الْحَدِيثَ (يُجَاءُ بِالْقَاضِي الْعَدْلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) لِيُعْلَمَ أَنَّ حَالَ مَنْ يَعْدِلُ إذَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَمَا ظَنُّك فِي حَالِ مَنْ يَجُورُ فِي قَوْلِهِ وَمَلَكٌ آخِذٌ بِقَفَاهُ إشَارَةٌ إلَى مَا يَلْقَى مِنْ الذُّلِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنْ كَانَ عَادِلًا فِي قَضَائِهِ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْ الْأَخْذِ بِالْقَفَاءِ فِي عُرْفِ النَّاسِ الِاسْتِخْفَافُ وَالذُّلُّ وَقِيلَ فِي تَأْوِيلِهِ أَنَّهُ، وَإِنْ كَانَ عَادِلًا فَقَدْ نَالَ بَعْضَ الْوَجَاهَةِ فِي الدُّنْيَا بِسَبَبِ تَقَلُّدِ الْقَضَاءِ فَهَذَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ لِمَا نَالَ مِنْ الْجَاهِ فِي الدُّنْيَا بِطَرِيقٍ هُوَ طَرِيقُ الْعَمَلِ لِلْآخِرَةِ وَمَعْنَى قَوْلِهِ دَفَعَهُ فِي مَهْوَاةٍ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا أَيْ