الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِهِ»، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ إذَا أَرَادَ أَنْ يُقَلِّدَ الْإِنْسَانَ الْقَضَاءَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُجَرِّبَهُ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ بِمُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَعَ أَنَّهُ كَانَ مَعْصُومًا فَغَيْرُهُ بِذَلِكَ أَوْلَى فَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَلَى وَجْهِ التَّعْلِيمِ لِأُمَّتِهِ، ثُمَّ حَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى حِينَ ظَهَرَ مِنْ التَّجْرِبَةِ كَمَا تَفَرَّسَ فِيهِ وَهَكَذَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ إذَا بَلَغَهُ عَنْ عَامِلٍ لَهُ مَا يَرْضَى بِهِ أَنْ يُعِدَّ ذَلِكَ نِعْمَةً مِنْ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ فَلْيُقَابِلْهَا بِالشُّكْرِ، وَفِيهِ دَلِيلُ جَوَازِ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ وَالْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ، مِنْ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ يَقُولُ جَوَازُ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمَا كَانَ يَجُوزُ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ؛ لِأَنَّ الْوَحْيَ كَانَ يَنْزِلُ وَهُوَ كَانَ يُبَيِّنُ لَهُمْ مَا كَانُوا يَحْتَاجُونَ إلَى الِاسْتِنْبَاطِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَالْحُكْمُ يَثْبُتُ بِالنَّصِّ مَقْطُوعًا بِهِ فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا إنْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لَهُمْ فِي حَيَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا بَعْدَهُ وَحَدِيثُ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلَمَّا «قَالَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اقْضِ بَيْنَ هَذَيْنِ قَالَ أَقْضِي، وَأَنْتَ حَاضِرٌ، أَوْ جَالِسٌ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَنَّك إنْ اجْتَهَدْت فَأَصَبْت فَلَكَ أَجْرَانِ، وَإِنْ أَخْطَأْت فَلَكَ أَجْرٌ وَاحِدٌ» فَقَدْ جَوَّزَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الِاجْتِهَادَ بِحَضْرَتِهِ.
وَقَدْ كَانَ يُشَاوِرُهُمْ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ شَاوَرَهُمْ فِي أُسَارَى بَدْرٍ وَأَشَارَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالْفِدَاءِ وَأَخَذَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ وَشَاوَرَ السَّعْدَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَوْمَ الْأَحْزَابِ فِي صُلْحِ بَنِي فَزَارَةَ عَلَى بَعْضِ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ وَأَخَذَ بِمَا أَشَارَا بِهِ وَلَمَّا أَشَارَ إلَيْهِ أُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ فِي النُّزُولِ عِنْدَ الْمَاءِ يَوْمَ بَدْرٍ أَخَذَ بِرَأْيِهِ فِي ذَلِكَ وَكَانَ صَوَابًا وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْفَصْلِ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ كَانَ يَجْتَهِدُ فِيمَا لَمْ يُوحَ إلَيْهِ فِيهِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ كَانَ يَنْتَظِرُ الْوَحْيَ، وَمَا كَانَ يَفْصِلُ بِالِاجْتِهَادِ وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَجْتَهِدُ، وَمَا كَانَ يُقِرُّ عَلَى الْخَطَأِ بَيَانُهُ أَنَّهُ «لَمَّا شَاوَرَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي حَادِثَةٍ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلًا فَإِنِّي فِيمَا لَمْ يُوحَ إلَيَّ مِثْلُكُمَا». «وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْخَثْعَمِيَّةِ أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ تَقْضِيه فَقَالَتْ نَعَمْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ»، وَهَذَا قَوْلٌ بِالِاجْتِهَادِ.
وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْقُبْلَةِ «أَرَأَيْت لَوْ تَمَضْمَضْت بِمَاءٍ، ثُمَّ مَجَجْته أَكَانَ يَضُرُّك». وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيَانِ حُرْمَةِ الصَّدَقَةِ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ «أَرَأَيْت لَوْ تَمَضْمَضْت بِمَاءٍ أَكُنْت شَارِبَهُ» فَهَذَا وَنَحْوُهُ دَلِيلٌ أَنَّهُ كَانَ يَقْضِي بِاجْتِهَادِهِ، وَمَا كَانَ يُقِرُّ عَلَى الْخَطَأِ فَقَضَاؤُهُ يَكُونُ